Polaroid
بسم الله الرحمن الرحيم
طـه حسين الأهـدا ء إلى حضرة صاحب الدولة : عبد الخالق ثروت باشا سيدي صاحب الدولة كنتُ قبل اليوم أكتبُ في السياسة ، وكنتُ أجد في ذكرك والإشادة بفضلك ، راحة نفس تحب الحق ، ورضا ضمير يحب الوفاء . وقد انصرفتُ عن السياسة وفرغتُ للجامعة وإذا أنا أراك في مجلسها كما كنتُ أراك من قبل ، قويّ الروح ، ذكي القلب ، بعيد النظر ، موفقا في تأييد المصالح العلمية توفيقك في تأييد المصالح السياسية . فهل تأذن لي أن أقدم إليك هذا الكتاب مع التحية الخالصة والإجلال العظيم ؟ طه حسين 22 مارس سنة 1926 م تمهيد هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد ، لم يألفه الناس عندنا من قبل . وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه ، وبأن فريقا آخر سيزورون عنه ازورارا . ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث ، أو بعبارة أصح أريد أن أقيده ، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة . وليس سرا ما تتحدث به إلى أكثر من مائتين . ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعا ما أعرف أني شعرت بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي . وهذا الاقتناع القوي هو الذي يحملني على تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول ، غير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بازورار المزور . وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق على آخرين ، فسيرضى هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد . ولقد تناول الناس منذ حين مسألة القديم والجديد ، واشتد فيها اللجاج بينهم ، وخيل إلى بعضهم أن المختصين أنفسهم لم يتناولوا المسألة من جميع أطرافها ، فهم لم يكادوا يتجاوزون فنون الأدب التي يتعاطاها الناس من نثر وشعر ، والأساليب التي تصطنع في هذه الفنون والمعاني ، والألفاظ التي يعمد إليها الكاتب أو الشاعر حين يريد أن يتحدث إلى الناس بعواطف نفسه أو نتائج عقله . ولكن للمسألة وجها آخر لا يتناول الفن الكتابي أو الشعري ، وإنما يتناول البحث العلمي عن الأدب وتاريخ فنونه . نحن بين اثنين : إما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قال القدماء ، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو منه كل بحث والذي يتيح لنا أن نقول : أخطأ الأصمعي أو أصاب ، ووفق أبو عبيدة أو لم يوفق ، واهتدى الكسائي أو ضل الطريق ، وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع بحث . لقد أنسيت ، فلست أريد أن أقول البحث وإنما أريد أن أقول الشك . أريد ألا نقبل شيئا مما قال القدماء في الأدب وتاريخه ألا بعد بحث وتثبت إن لم ينتهيا إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان . والفرق بين هذين المذهبين في البحث عظيم ، فهو الفرق بين الإيمان الذي يبعث على الاطمئنان والرضا ، والشك الذي يبعث على القلق والاضطراب وينتهي في الكثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود . المذهب الأول يدع كل شيء حيث تركه القدماء لا يناله بتغيير ولا تبديل ولا يمسه في جملته وتفصيله إلا مسا رفيقا . أما المذهب الثاني فيقلب العلم القديم رأسا على عقب . وأخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئا كثيرا . ولندع هذا النحو من الكلام العام ولنوضح ما نريد أن نقوله بشيء من الأمثلة : بين يدينا مسألة الشعر الجاهلي نريد أن ندرسها وننتهي فيها إلى الحق . فأما أنصار القديم فالطريق أمامهم واضحة معبدة ، والأمر عليهم سهل يسير . أليس قد أجمع القدماء من علماء الأمصار في العراق والشام وفارس ومصر والأندلس على أن طائفة كثيرة من الشعراء قد عاشت قبل الإسلام وقالت كثيرا من الشعر ؟ أليس قد أجمع هؤلاء العلماء أنفسهم على أن لهؤلاء الشعراء أسماء معروفة محفوظة مضبوطة يتناقلها الناس ولا يكادون يختلفون فيها ؟ أليس قد أجمع هؤلاء العلماء على أن لهؤلاء الشعراء مقدارا من القصائد والمقطوعات حفظه عنهم رواتهم وتناقله عنهم الناس ، حتى جاء عصر التدوين فدون في الكتب وبقى منه ما شاء الله أن يبقى إلى أيامنا ؟ وإذا كان العلماء قد اجمعوا على هذا كله فرووا لنا أسماء الشعراء وضبطوها ونقلوا إلينا آثار الشعراء وفسروها ، فلم يبق إلا أن تأخذ عنهم ما قالوا راضين به مطمئنين إليه . فإذا لم يكن لأحدنا يد من أن يبحث وينقد ويحقق فهو يستطيع هذا دون أن يجاوز مذهب أنصار القديم . فالعلماء قد اختلفوا في الرواية بعض الاختلاف وتفاوتوا في الضبط بعض التفاوت . فلتوازن بينهم ولنرجح رواية على رواية ولنؤثر ضبطا على ضبط ، ولنقل : أصاب البصريون أخطأ الكوفيون ، أو وفق المبرد ولم يوفق ثعلب . لنذهب في الأدب وفنونه مذهب الفقهاء في الفقه بعد أن أغلق باب الاجتهاد : هذا مذهب أنصار القديم ، وهو المذهب الذائع في مصر ، وهو المذهب الرسمي أيضا ، مضت عليه مدارس الحكومة وكتبها ومنهجها على ما بينها من تفاوت واختلاف . ولا ينبغي أن تخدعك هذه الألفاظ المستحدثة في الأدب ، ولا هذا النحو من التأليف الذي يقسم التاريخ الأدبي إلى عصور ، ويحاول أن يدخل فيه شيئا من الترتيب والتنظيم ؛ فذلك كله عناية بالقشور والأشكال لا يمس اللباب ولا الموضوع . فما زال العرب ينقسمون إلى بائدة وباقية ، وإلى عاربة ومستعربة . وما زال أولئك من جرهم ، وهؤلاء من ولد إسماعيل . وما زال امرؤ القيس صاحب " قفا نبك ... " وطرفة صاحب " لخولة أطلال ... " وعمر بن كلثوم صاحب " ألا هبي ... " ، وما زال كلام العرب في جاهليتها وإسلامها ينقسم إلى شعر ونثر . والنثر ينقسم إلى مرسل ومسجوع ، إلى آخر هذا الكلام الكثير الذي يفرغه أنصار القديم فيما يضعون من كتب وما يلقون على التلاميذ والطلاب من دروس . هم لم يغيروا في الأدب شيئا . وما كان لهم أن يغيروا فيه شيئا وقد أخذوا أنفسهم بالاطمئنان إلى ما قال القدماء وأغلقوا على أنفسهم في الأدب باب الاجتهاد كما أغلقه الفقهاء في الفقه والمتكلمون في الكلام . وأما أنصار الجديد ، فالطريق أمامهم معوجة ملتوية ، تقوم فيها عقاب لا تكاد تحصى . وهم لا يكادون يمضون إلا في أناة وريث هما إلى البطء أقرب منهما إلى السرعة . ذلك أنهم لا يأخذون أنفسهم بإيمان ولا اطمئنان ، أو هم لم يرزقوا هذا الإيمان والاطمئنان . فقد خلق الله لهم عقولا تجد من الشك لذة وفي القلق والاضطراب رضا . وهم لا يريدون أن يخطوا في تاريخ خطوة حتى يتبينوا موضعها . وسواء عليهم وافقوا القدماء وأنصار القديم أم كان بينهم وبينهم أشد الخلاف . هم لا يطمئنون إلى ما قال القدماء ، وإنما يلقونه بالتحفظ والشك . ولعل أشد ما يملكهم الشك حين يجدون من القدماء ثقة واطمئنانا . هم يريدون أن يدرسوا مسألة الشعر الجاهلي فيتجاهلون إجماع القدماء على ما اجمعوا عليه ، ويتساءلون : أهناك شعر جاهلي ؟ فإن كان هناك شعر جاهلي فما السبيل إلى معرفته ؟ وما هو ؟ وما مقداره ؟ وبم تميز من غيره ؟ ويمضون في طائفة من الأسئلة يحتاج حلها إلى روية وأناة وإلى جهود الجماعات العلمية لا إلى جهود الأفراد . هم لا يعرفون أن العرب ينقسمون إلى باقية وبائدة ، وعاربة ومستعربة ، ولا أن أولئك من جرهم ، وهؤلاء من ولد إسماعيل ، ولا أن امرأ القيس وطرفة وابن كلثوم قالوا هذه المطولات ، ولكنهم يعرفون أن القدماء كانوا يرون ذلك . ويريدون أن يتبينوا أكان القدماء مصيبين أم مخطئين ؟ والنتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر ، فهي إلى الثورة الأدبية أقرب منها إلى أي شيء آخر . وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرونه يقينا ، وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه . وليس حظ هذا المذهب منتهيا عند هذا الحد ، بل هو يجاوزه إلى حدود أخرى أبعد منه مدى وأعظم أثرا . فهم قد ينتهون إلى تغيير التاريخ أو ما اتفق الناس على أنه تاريخ . وهم قد ينتهون إلى الشك في أشياء لم يكن يباح الشك فيها . وهم بين اثنين : إما أن يجحدوا أنفسهم ويجحدوا العلم وحقوقه فيريحوا ويستريحوا ؛ وإما أن يعرفوا لأنفسهم حقها ويؤدوا للعلم واجبه ، فيعترضوا لما ينبغي أن يتعرض له العلماء من الأذى ويحتملوا ما ينبغي أن يتعرض له العلماء من سخط الساخطين . ولست أزعم أني من العلماء . ولست أتمدح بأني أحب أن أتعرض للأذى . وربما كان الحق أني أحب الحياة الهادئة المطمئنة وأرد أن أتذوق لذات العيش في دعة ورضا . ولكني مع ذلك أحب أن أفكر ، وأحب أن أبحث ، وأحب أن أعلن إلى الناس ما انتهى إليه بعد البحث والتفكير ؛ ولا أكره أن آخذ نصيبي من رضا الناس عني أو سخطهم على حين أعلن إليهم ما يحبون أو ما يكرهون . وإذن فلأعتمد على الله ، ولأحدثك بما أحب أحدثك به في صراحة وأمانة وصدق ، ولأجتنب في هذا الحديث هذه الطرق التي يسلكها المهرة من الكتاب ليدخلوا على الناس ما لم يألفوا في رفق وأناة وشيء من الاحتياط كثير . وأول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك ، أو قل ألح عليّ الشك ، فأخذت أبحث أفكر وأقرأ وأتدبر ، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقينا فهو قريب من اليقين . ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء ، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام ، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين . وأكاد لا أشك في أن ما بقى من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على أي شيء ، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي . وأنا أقدر النتائج الخطرة لهذه النتيجة ، ولكني مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها ، ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ما تقرؤه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء ؛ وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين . وأنا أزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يضع ، وأنا نستطيع أن نتصوره تصورا واضحا قويا صحيحا . ولكن بشرط ألا نعتمد على الشعر ، بل على القرآن من ناحية ، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى . وستسألني كيف انتهى بي البحث إلى هذه النظرية الخطرة ؟ ولست أكره أن أجيبك على هذا السؤال ؛ بل أنا لا أكتب ما أكتب إلا لأجيبك عليه . ولأجل أن أجيبك عليه إجابة مقنعة يجب أن أتحدث إليك في طائفة مختلفة من المسائل . وسترى أن هذه الطائفة المختلفة من المسائل تنتهي كلها إلى نتيجة واحدة هي هذه النظرية التي ذكرتها منذ حين . يجب أن أحدثك عن الحياة السياسية الداخلية للأمة العربية بعد ظهور الإسلام ووقوف حركة الفتح ، وما بين هذه الحياة وبين الشعر من صلة . ويجب أن أحدثك عن حال أولئك الناس الذين غلبوا على أمرهم بعد الفتح في بلاد الفرس وفي الشام والجزيرة والعراق ومصر ، وما بين هذه الحال وبين لغة العرب وآدابهم من صلة . ويجب أن أحدثك عن نشأة العلوم الدينية واللغوية وما بينها وبين اللغة والأدب من صلة . ثم يجب أن أحدثك عن اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام وبعده ، وما بين اليهود هؤلاء وبين الأدب العربي من صلة . ويجب أن أحدثك بعد هذا عن المسيحية وما كان لها من الانتشار في بلاد العرب قبل الإسلام وما أحدثت من تأثير في حياة العرب العقلية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية ، وما بين هذا كله وبين الأدب العربي والشعر العربي من صلة . ثم يجب أن أحدثك عن مؤثرات سياسية خارجية عملت في حياة العرب قبل الإسلام وكان لها أثر قوي جدا في الشعر العربي الجاهلي وفي الشعر العربي الذي انتحل وأضيف إلى الجاهليين . وهذه المباحث التي أشرت إليها ستنتهي كلها إلى تلك النظرية التي قدمتها : وهي أن الكثرة المطلقة مما نسميه الشعر الجاهلي ليست من الشعر الجاهلي في شيء . ولكني مع ذلك لن أقف عند هذه المباحث ؛ لأني لم أقف عندها فيما بيني وبين نفسي بل جاوزتها . وأريد أن أجاوزها معك إلى نحو آخر من البحث أظنه أقوى دلالة وأنهض حجة من المباحث الماضية كلها ، ذلك هو البحث الفني واللغوي . فسينتهي بنا هذا البحث إلى أن هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء ، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن . نعم ! وسينتهي بنا هذا المبحث إلى نتيجة غريبة ، وهي أنه لا ينبغي أن يستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث ، وإنما ينبغي أن يستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله ، أريد أن أقول إن هذه الأشعار لا تثبت شيئا ولا تدل على شيء ولا ينبغي أن تتخذ وسيلة إلى ما اتخذت إليه من علم بالقرآن والحديث . فهي إنما تكلفت واخترعت اختراعا ليستشهد بها العلماء على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا عليه . فإذا انتهينا من هذه الطرق كلها إلى غاية واحدة هي هذه النظرية التي قدمتها ، فسنجتهد في أن نبحث عما يمكن أن يكون شعرا جاهليا حقا . وأنا أعترف منذ الآن بأن هذا البحث عسير كل العسر ، وبأني أشك شكا شديدا في أنه قد ينتهي بنا إلى نتيجة مرضية . ومع ذلك فسنحاوله . . . منهج البحث أحب أن أكون واضحا جليا وأن أقول للناس ما أريد أن أقول دون أن اضطرهم إلى أن يتأولوا ويذهبوا مذاهب مختلفة في النقد والتفسير والكشف عن الأغراض التي أرمي إليها . أريد أن أريح الناس من هذا اللون من ألوان التعب ، وأن أريح نفسي من الرد والدفع والمناقشة فيما لا يحتاج إلى مناقشة . أريد أن أقول إني سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما تناولون من العلم والفلسفة . أريد أن اصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه (ديكارت) للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث . والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل ، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما , والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر ، قد كان من أخصب المناهج وأقومها وأحسنها أثرا ، وأنه قد جدد العلم والفلسفة تحديدا ، وأنه غير مذاهب الأدباء في أدبهم والفنانين في فنونهم ، وأنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث . فلنصطنع هذا المنهج حن نريد أن نتناول أدبنا العربي القديم تاريخه بالبحث والاستقصاء . ولنستقبل هذا الأدب وتاريخه وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل وخلصنا من كل هذه الأغلال الكثيرة التي تأخذ أيدينا وأرجلنا ورؤوسنا فتحول بيننا وبين الحركة الجسمية الحرة أيضا . نعم ! يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها ، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به ، وأن ننسى ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين ؛ يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح . ذلك أنـّا إذا لم ننس قوميتنا وديننا وما يتصل بهما فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف ، وسنغل عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدين . وهل فعل القدماء غير هذا ؟ وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا ؟ كان القدماء عربا يتعصبون للعرب ، أو كانوا عجما يتعصبون على العرب ؛ فلم يبرأ علمهم من الفساد ؛ لأن المتعصبين للعرب غلوا في تمجيدهم وإكبارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم ؛ ولأن المتعصبين على العرب غلوا في تحقيرهم وإصغارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضا . كان القدماء مسلمين مخلصين في حب الإسلام ، فأخضعوا كل شيء لهذا الإسلام وحبهم إياه ، ولم يعرضوا لمبحث علمي ولا لفصل من فصول الأدب أو لون من ألوان الفن إلا من حيث أنه يؤيد الإسلام ويعزه ويعلي كلمته . فما لاءم مذهبهم هذا أخذوه ، وما نافره انصرفوا عنه انصرافا . أو كان القدماء غير المسلمين : يهوداً أو نصارى أو مجوسا أو ملحدين أو مسلمين في قلوبهم مرض وفي نفوسهم زيغ ، فتأثروا في حياتهم العلمية بمثل ما تأثر به المسلمون الصادقون : تعصبوا على الإسلام ونحوا في بحثهم العلمي نحو الغض منه والتصغير من شأنه ، فظلموا أنفسهم وظلموا الإسلام وأفسدوا العلم وجنوا على الأجيال المقبلة . ولو أن القدماء استطاعوا أن يفرقوا بين عقولهم وقلوبهم وأن يتناولوا العلم على نحو ما يتناوله المحدثون لا يتأثرون في ذلك بقومية ولا عصبية ولا دين ولا ما يتصل بهذا كله من الأهواء ، لتركوا لنا أدبا غير الأدب الذي نجده بين أيدينا ، ولأراحونا من هذا العناء الذي نتكلفه الآن . ولكن هذه طبيعة الإنسان لا سبيل إلى التخلص منها . وأنت تستطيع أن تقول هذا الذي نقوله في كل شيء . فلو أن الفلاسفة ذهبوا في الفلسفة مذهب (ديكارت) منذ العصور الأولى ، لما احتاج (ديكارت) إلى أن يستحدث منهجه الجديد . ولو أن المؤرخين ذهبوا في كتابة منذ العصور الأولى مذهب (سينيو بوس) لما احتاج (سينيو بوس) إلى أن يستحدث منهجه في التاريخ . وبعبارة أدنى إلى الإيجاز : لو أن الإنسان خلق كاملا لما احتاج إلى أن يطمع في الكمال . فلندع لوم القدماء على ما تأثروا به في حياتهم العلمية مما أفسد عليهم العلم . ولنجتهد في ألا نتأثر كما تأثروا وفي ألا نفسد العلم كما أفسدوه . لنجتهد في أن ندرس الأدب العربي غير حافلين بتمجيد العرب أو الغض منهم ، ولا مكترثين بنصر الإسلام أو النعي عليه ، ولا معنيين بالملاءمة بينه وبين نتائج البحث العلمي والأدبي ، ولا وجلين حين ينتهي بنا هذا البحث إلا ما تأباه القومية أو تنفر منه الأهواء السياسية أو تكرهه العاطفة الدينية . فإن نحن حررنا أنفسنا إلى هذا الحد فليس من شك في أننا سنصل ببحثنا العلمي إلى نتائج لم يصل إلى مثلها القدماء . وليس من شك في أننا سنلتقي أصدقاء سواء اتفقنا في الرأي أو اختلفنا فيه . فما كان اختلاف الرأي في العلم سببا من أسباب البغض ؛ إنما الأهواء والعواطف هي التي تنتهي بالناس إلى ما يفسد عليهم الحياة من البغض والعداء . فأنت ترى أن منهج (ديكارت) هذا ليس خصبا في العلم والفلسفة والأدب فحسب ، وإنما هو خصب في الأخلاق والحياة الاجتماعية أيضا . وأنت ترى أن الأخذ بهذا المنهج ليس حتما على الذين يدرسون العلم ويكتبون فيه وحدهم ، بل هو حتم على الذين يقرءون أيضا . وأنت ترى أني غير مسرف حين أطلب منذ الآن إلى الذين لا يستطيعون أن يبرءوا من القديم ويخلصوا من أغلال العواطف والأهواء حين يقرءون العلم أو يكتبون فيه ألا يقرءوا هذه الفصول . فلن تفيدهم قراءتها إلا أن يكونوا أحرارا حقا . مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي على أني أحب أن يطمئن الذين يكلفون بالأدب العربي القديم ويشفقون عليه ويجدون شيئا من اللذة في أن يعتقدوا أن هناك شعرا جاهليا يمثل حياة جاهلية انقضى عصرها بظهور الإسلام ؛ فلن يمحو هذا الكتاب ما يعتقدون ، ولن يقطع السبيل بينهم وبين هذه الحياة الجاهلية يدرسونها ويجدون في درسها ما يبتغون من لذة علمية وفنية . بل أنا ذاهب إلى أبعد من هذا ، فأزعم أني سأكتشف لهم طريقا جديدة واضحة قصيرة سهلة يصلون منها إلى هذه الحياة الجاهلية ، أو بعبارة أصح : يصلون منها إلى حياة جاهلية لم يعرفوها ، إلى جاهلية قيمة مشرفة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة التي يجدونها في المطولات وغيرها مما ينسب إلى الشعراء الجاهليين . ذلك أني لا أنكر الحياة الجاهلية وإنما أنكر أن يمثلها هذا الشعر الذي يسمونه الشعر الجاهلي . فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير ، لأني لا أثق بما ينسب إليهم ؛ وإنما أسلك إليها طريقا أخرى ، وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته ، أدرسها في القرآن . فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي . ونص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه . أدرسها في القرآن ، وأدرسها في شعر هؤلاء الشعراء الذين عاصروا النبي وجادلوه ، وفي شعر الشعراء الآخرين الذين جاءوا بعده ولم تكن نفوسهم قد طابت عن الآراء والحياة التي ألفها آباؤهم قبل ظهور الإسلام . بل أدرسها في الشعر الأموي نفسه . فلست أعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية . فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة والشماخ وبشر بن أبي حازم . قلت : أن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية . وهذه القضية غريبة حين تسمعها ؛ ولكنها بديهية حين تفكر فيها قليلا . فليس من اليسير أن نفهم الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تليت عليهم آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة هي هذه الصلة التي توجد بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه . وليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاوموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا على أسراره ودقائقه . وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدا كله على العرب . فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه ، ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر . إنما كان القرآن جديدا في أسلوب ، جديدا فيما يدعو إليه ، جديدا فيما شرع للناس من دين وقانون ، ولكنه كان كتابا عربيا ؛ لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره ، أي في العصر الجاهلي . وفي القرآن رد على الوثنيين فيما كانوا يعتقدون من الوثنية ، وفيه رد على اليهود ، وفيه رد على النصارى ، وفيه رد على الصائبة والمجوس . وهو لا يرد على يهود فلسطين ، ولا على نصارى الروم ، ومجوس الفرس ، وصائبة الجزيرة وحدهم ، وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية نفسها . ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر ، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه ، وضحوا في سبيل تأييده ومعارضته بالأموال والحياة . أفترى أحدا يحفل بي لو أني أخذت أهاجم البوذية أو غيرها من هذه الديانات التي لا يدينها أحد في مصر ؟ ولكني أغيظ النصارى حين أهاجم النصرانية ، وأهيج اليهود حين أهاجم اليهودية ، وأُحفظ المسلمين حين أهاجم الإسلام . وأنا لا أكاد أعرض لواحد من هذه الأديان حتى أجد مقاومة الأفراد ثم الجماعات ، ثم مقاوم الدولة نفسها تمثلها النيابة والقضاء . ذلك لأني أهاج ديانات ممثلة في مصر يؤمن بها المصريون وتحميها الدولة المصرية . وكذلك كانت الحال حين ظهر الإسلام : هاجم الوثنية فعارضوه الوثنيون ، هاجم اليهود فعارضه اليهود ، هاجم النصارى فعارضه النصارى , ولم تكن هذه المعارضة هينة ولا لينة ، وإنما كانت تقدر بمقدار ما كان لأهلها من قوة ومنعة وبأس في الحياة الاجتماعية والسياسية . فأما وثنية قريش فقد أخرجت النبي من مكة ونصبت له الحرب واضطرت أصحابه إلى الهجرة . وأما يهودية اليهود فقد ألبت عليه وجاهدته جهادا عقليا وجدليا ، ثم انتهت إلى الحرب والقتال . وأما نصرانية النصارى فلم تكن معارضتها للإسلام إبان حياة النبي قوية قوة المعارضة الوثنية واليهودية . لماذا ؟ لأن البيئة التي ظهر فيها النبي لم تكن بيئة نصرانية ، إنما كانت وثنية في مكة ، يهودية في المدينة . ولو ظهر النبي في الحيرة أو في نجران للقى من النصارى هاتين المدينتين مثل ما لقى من مشركي مكة ويهود المدينة . وفي الحق أن الإسلام لم يكد يظهر على مشركي الحجاز ويهوده حتى استحال الجهاد بينه وبين النصارى من جدال ونضال بالحجة إلى اصطدام مسلح ، أدرك النبي أوله وانتهى به الخلفاء إلى أقصى حدوده . فأنت ترى أن القرآن حيث يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات إنما يتحدث عن العرب وعن نحل ديانات ألفها العرب . فهو يبطل منها ما يبطل ، ويؤيد منها ما يؤيد . وهو يلقى في ذلك من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من السلطان على نفوس الناس . وإذن فما أبعد الفراق بين نتيجة البحث عن الحياة الجاهلية في هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين والبحث عنها في القرآن ! فأما هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين فيظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة ومن الشعور الديني القوى والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العملية ؛ وإلا فأين تجد شيئا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة ! أو ليس عجبا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين ! . وأما القرآن فيمثل لنا شيئا آخر ، يمثل لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال . فإذا رأوا أنه قد أصبح قليل الغناء لجأوا إلى الكيد ، ثم إلى الاضطهاد ، ثم إلى إعلان الحرب التي لا تبقى ولا تذر . فتظن أن قريشا كانت تكيد لأبنائها وتضطهدهم وتذيقهم ألوان العذاب ثم تخرجهم من ديارهم ثم تنصب لهم الحرب وتضحي في سبيلها بثروتها وقوتها وحياتها لو لم يكن لها من الدين ل ما يمثله هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ؟ كلا ! كانت قريش متدينة قوية الايمان بدينها . ولهذا الدين وللايمان بهذا الدين جاهدت ما جاهدت وضحت ما ضحت . وقل مثل ذلك في اليهود ؛ وقل مثله في غير أولئك وهؤلاء من العرب الذي جاهدوا النبي عن دينهم . فالقرآن إذن أصدق تمثيلا للحياة الدينية عند العرب من هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي . ولكن القرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها ؛ وإنما يمثل شيئا آخر غيرها لا نجده في هذا الشعر الجاهلي ، يمثل حياة عقلية قوية ، يمثل قدرة على الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظا عظيما . أليس لبقرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون النبي بقوة الجدال والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة ! وفيم كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون ؟ في الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم دون ان يوفقوا الى حلها : في البعث ، في الخلق ، في امكان الاتصال بين الله و الناس ، في المعجزة وما إلى ذلك . أفتظن قوما يجادلون في هذه الاشياء جدالا يصفه القرآن بالقوة ويشهد لأصحابه بالمهارة ، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ! كلا ! لم يكونوا جهالا ولا أغبياء ولا غلاظا ولا أصحاب حياة خشنة جافية ؛ وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة . ومهما يجب أن نحتاط ، فلم يكن العرب كلهم كذلك ؛ وإنما كانوا كغيرهم من الأمم القديمة وككثير من الأمم الحديثة منقسمين إلى طبقتين : طبقة المستنيرين الذي يمتازون بالثروة والجاه والذكاء والعلم ، وطبقة العامة الذين لا يكاد يكون لهم من هذا كله حظ . القرآن شاهد بهذا . أليس يحدثنا عن أولئك المستضعفين الذين كفروا طاعة لسادتهم وزعمائهم لا جهادا في الرأي ولا اقتناعا بالحق ، والذين سيقولون يوم يسألون : (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) . بلى ! والقرآن يحدثنا عن جفوة الأعراب وغلظتهم وامعانهم في الكفر والنفاق وقلة حظهم من العاطفة الرقيقة التي تحمل الإيمان والتدين . أليس هو الذي يقول : (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله) . أليس قد شرع للنبي أن يتألف قلوب الأعراب بالمال ! بلى . فالقرآن إذن يمثل الأمة العربية على أنها كغيرها من الأمم القديمة ، فيها الممتازون المستنيرون الذين كان النبي يجادلهم ويجاهدهم ؛ وفيها العامة الذين لم يكن لهم حظ من استنارة أو امتياز والذين كانوا موضوع النزاع بين النبي بالمال أحيانا . والقرآن لا يمثل الأمة العربية متدينة مستنيرة فحسب ، بل هو يعطينا منها صورة أخرى يدهش لها الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة العربية قبل الاسلام ، فهم يعتقدون أن العرب كانوا قبل الاسلام أمة معتزلة تعيش في صحرائها لا تعرف العالم الخارجي ولا يعرفها العالم الخارجي ، وهم يبنون على هذا قضايا ونظريات ، فهم يقولون إن الشعر الجاهلي لم يتأثر بهذه المؤثرات الخاجية التي أثرت بالشعر الإسلامي : لم يتأثر بحضارة الفرس والروم . وأنى له ذلك ! لقد كان يقال في صحراء لا صلة بينها وبين الأمم المتحضرة . كلا ! القرآن يحدثنا بشيء غيرهذا ، القرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بما حولهم من الأمم بل كانوا على اتصال قوي قسمهم احزابا وفرقهم شيعا . أليس القرآن يحدثنا عن الروم وما كان بينهم وبين الفرس من حرب انقسمت فيها العرب إلى حزبين مختلفين : حزب يشايع أولئك ، وحزب يناصر هؤلاء ! أليس في القرآن سورة تسمى الروم وتبتدئ بهذه الايات : (آلم غابت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء) . لم يكن العرب إذن كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين ؛ فأنت ترى أن القرآن يصف عنايتهم بسياسة الروم والفرس . وهو يصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ..) وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام حيث الروم ، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة أو الفرس . وسيرة النبي تحدثنا أن العرب تجاوزوا بوغاز باب المندب إلى بلاد الحبشة . ألم يهاجر المهاجرون الأولون إلى هذه البلاد ! وهذه السيرة نفسها تحدثنا بأنهم تجاوزوا الشام وفلسطين إلى مصر . فلم يكونوا إذن معتزلين ، ولم يكونوا إذن بنجوة من تأثير الفرس والروم والحبش والهند وغيرهم من الأمم المجاورة لهم . لم يكونوا غير دين ولم يكونوا جهالا ولا غلاظا ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلى الأمم الأخرى ، كذلك يمثلهم القرآن . وإذا كانوا أصحاب علم ودين ، وأصحاب ثروة وقوة وبأس ، وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة متأثرة بها مؤثرة فيها ، فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية لا أمة جاهلة همجية . وكيف يستطيع رجل عاقل أن يصدق أن القرآن قد ظهر في أمة جاهلية همجية ! أرأيت أن التماس الحياة العربية الجاهلية في القرآن أنفع وأجدى من التماسها في هذا الشعر العقيم الذي يسمونه الجاهلي ! أرأيت أن هذا النحو من البحث يغير كل التغيير ما تعودنا أن نعرف من أمر الجاهليين ! الشعر الجاهلي واللغة على أن هناك شيئا آخر يحظر علينا التسليم بصحة الكثرة المطلقة من هذا الشعر الجاهلي ، ولعله أبلغ في اثبات ما نذهب اليه . فهذا الشعر الذي رأينا أنه لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين بعيد كل البعد على أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه والأمر هنا يحتاج إلى شيء من الروية والأناة . فنحن إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم حين نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه ، نريد بها الألفاظ من حيث هي ألفاظ تدل على معانيها ، تستعمل حقيقة مرة ومجازا مرة أخرى ، وتتطور تطورا ملائما لمقتضيات الحياة التي يحياها أصحاب هذه اللغة . نقول أن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية . ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي ، أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه . أما الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه فهو أن العرب ينقسمون إلى قسمين : قحطانية منازلهم الأولى في اليمن ، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز . وهم متفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية فهم العاربة ، وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابا ، كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية ، ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الأولى من صدورهم وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة . وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعربة إنما يتصل نسبهم باسماعيل بن ابراهيم . وهم يروون حديثا يتخذونه أساسا لكل هذه النظرية ، خلاصته أن أول من تكلم بالعربية ونسى لغة أبيه اسماعيل بن ابراهيم . على هذا كله يتفق الرواة ، ولكنهم يتفقون على شيء آخر أيضا أثبته البحث الحديث ، وهو أن هناك خلافا قويا بين لغة حمير (وهي العرب العاربة) ولغة عدنان (وهي العرب المستعربة) . وقد روى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا . وفي الحق أن البحث الحديث قد أثبت خلافا جوهريا بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية ، واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذا البلاد . ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من اثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضا . وإذن فلابد من حل هذه المسألة . إذا كان أبناء اسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العاربة فكيف بعد ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العاربة واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة ، حتى استطاع أبو عمرو بن العلاء أن يقول إنهما لغتان متمايزتان ، واستطاع العلماء المحدثون أن يثبتوا هذا التمايز بالأدلة التي لا تقبل شكا ولا جدالا ! والأمر لا يقف عند هذا الحد ، فواضح جدا لكل من له المام بالبحث التاريخي عامة وبدرس الأساطير والأقاصيص خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية . للتوراة أن تحدثنا عن ابراهيم واسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا ، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لاثبات وجودهما التاريخي ، فضلا عن اثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة اسماعيل بن ابراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها . ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في اثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة ، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى . وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويثبتون فيه المستعمرات . فنحن نعلم أن حروبا عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد ، وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة ونوع من المحالفة والمهادنة . فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام ، لا سيما وقد رأى أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئا من التشابه غير قليل ؛ فأولئك وهؤلاء ساميون . ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب ، قد اقتضى أن تثبت الصلة الوثيقة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين : ديانة النصارى واليهود . فأما الصلة الدينية فثابتة واضحة ، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض ، كلها ترمي إلى التوحيد ، وتعتمد على أساس واحد هو هذا الذي تشترك فيه الديانات السماوية السامية . ولكن هذه الصلة الدينية معنوية وعقلية يحسن أن تؤيدها صلى أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وبين أهل الكتاب . فما الذي يمنع أن تستغل هذه القصة قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية واليهود ؟ وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح فقد كانت أول هذا القرن قد انتهت إلى حظ من من النهضة السياسية والاقتصادية ضمن لها السيادة في مكة وماحولها وبسط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من العربية الوثنية . وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين : التجارة من جهة ، والدين من جهة أخرى . فأما التجارة فنحن نعلم أن قريشا كانت تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة . وأما الدين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج اليها العرب المشركون في كل عام ، والتي أخذت تبسط على نفوس هؤلاء العرب المشركين نوعا من السلطان قويا ، والتي أخذ هؤلاء العرب المشركون يجعلون منها رمزا لدين قوي كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية والمسيحية من ناحية أخرى . فنحن نلمح في الأساطير أن شيئا من المنافسة الدينية كان قائما بين مكة ونجران . ونحن نلمح في الأساطير أيضا أن هذه المنافسة الدينية بين مكة وبين الكنيسة التي أنشأها الحبشة في صنعاء هي التي دعت إلى حرب الفيل التي ذكرت في القرآن . فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية ، ونهضة دينية وثنية . وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم تدخل الروم والفرس والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية . وإذا كان هذا حقا – ونحن نعتقد أنه حق – فمن المعقول جدا أن تبحث هذه المدينة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير . وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس اسماعيل وابراهيم ، كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة باينياس ابن بريام صاحب طروادة . أمر هذه القصة إذن واضح . فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني ، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضا ، وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عند ما يريد أن يعترف أصل اللغة العريبة الفصحى . وإذن فنستطيع أن نقول أن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي أنت تتكلمها القحطانية في اليمن إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة ، وإن قصة العاربة والمستعربة وتعلم اسماعيل العربية من جرهم ، كل ذلك حديث أساطير لا خطر له ولا غناء فيه . والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع الذي أبتدأنا به منذ حين ، وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا . ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن ، والتي كان يقول عنها أبو عمرو بن العلاء : إن لغتها مخالفة للغة العرب ، والتي أثبت البحث الحديث ، أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية . ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضاف إلى شعراء هذه القحطانية في الجاهلية لا نجد فرقا قليلا ولا كثيرا بينه وبين شعر العدنانية . نستغفر الله ! بل نحن لا نجد فرقا بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن . فكيف يمكن فهم ذلك أو تأويله ؟ أمر ذلك يسير ، وهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلى القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء ، لم يقله شعراؤها وإنما حمل عليهم بعد الإسلام لأسباب مختلفة سنبينها حين نعرض لهذه الأسباب التي دعت إلى انتحال الشعر الجاهلي في الإسلام الشعر الجاهلي واللهجات على أن الأمر يتجاوز هذا الشعر الجاهلي القحطاني إلى الشعر الجاهلي العدناني نفسه . فالرواة يحدثونا أن الشعر تنقل في قبائل عدنان ، كان في ربيعة ثم انتقل إلى قيس ثم إلى تميم . فظل فيها إلى ما بعد الإسلام أي إلى أيام بني أمية حين نبغ الفرزدق وجرير . ونحن لا نستطيع أن نقبل هذا النوع من الكلام إلا باسمين ، لأننا لا نعرف ما ربيعة وما قيس وما تميم معرفة علمية صحيحة ، أي لأننا ننكر أو نشك على أقل تقدير شكا قويا في قيمة هذه الأسماء التي تسمى بها القبائل ، وفي قيمة الأنساب التي تصل بين الشعراء وبين أسماء هذه القبائل ؛ ونعتقد أو نرجح أن هذا كله أقرب إلى الأساطير منه إلى العلم اليقين . ولكن مسألة النسب وقيمته مسألة لا تعنينا الآن . فلندعها إلى حيث نعرض لها إذا اقتضت مباحث هذا الكتاب أن نعرض . وقد بينا رأينا فيها بيانا مجملا في "ذكرى أبي العلاء" . إنما المسالة التي تعنينا الآن وتحملنا على الشك في قيمة هذه النظرية (نظرية تنقل الشعر في قبائل عدنان قبل الإسلام) مسالة فنية خالصة . فالرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام فيقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيرا من تباين اللهجات . وكان من المعقول أن تختلف لغات العرب العدنانية وتتباين لهجاتهم قبل ظهور الإسلام . ولا سيما إذا صحت النظرية التي أشرنا إليها آنفا وهي نظرية العزلة العربية ، وثبت أن العرب كانوا متقاطعين متنابذين ، وأنه لم يكن بينهم من أسباب المواصلات المادية والمعنوية ما يمكن من توحيد اللهجات . فإذا صح هذا كله ، كان من المعقول جدا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام ، وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القران على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة . ولكننا لا نرى شيئا من ذلك في الشعر العربي الجاهلي . فأنت تستطيع أن تقرأ هذه المطولات أو المعلقات التي يتخذها أنصار القديم نموذجا للشعر الجاهلي الصحيح ، فسترى أن فيها مطولة لامرئ القيس وهو من كندة أي من قحطان ، وأخرى لزهير ، وأخرى لعنترة ، وثالثة للبيد ، وكلهم من قيس ، ثم قصيدة لطرفة ، وقصيدة لعمرو بن كلثوم ، وقصيدة أخرى للحارث بن حلزة وكلهم من ربيعة . تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون ان تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافا في اللهجة او تباعدا في اللغة أو تباينا في مذهب الكلام . البحر العروضي هو هو ، وقواعد القافية هي هي ، والألفاظ مستعملة في معانيها كما نجدها عند شعراء المسلمين ، والمذهب الشعري هو هو . كل شيء في هذه المطولات يدل على أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تاثيرا ما . فنحن بين اثنتين : إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي ؛ وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر من هذه القبائل وإنما حمل عليها حملا بعد الإسلام . ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى . فالبرهان القاطع قائم على اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان ، يعترف القدماء انفسهم بذلك كما رأيت أبا عمرو بن العلاء ، ويثبته البحث الحديث . وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من الوقت ما يمكننا من استقصائه وتفصيل القول فيه ، وهو أن القرآن الذي تلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينا كثيرا ، جد القراء والعلماء المتأخرون في ضبطه وتحقيقه وأقاموا له علما أو علوما خاصة . ولسنا نشير هنا إلى هذه القراءات التي تختلف فيما بينها اختلافا كثيرا في ضبط الحركات سواء أكانت حركات بنية أو حركات إعراب . لسنا نشير إلى اختلاف القراء في نصب " الطير " في الآية : (يا جبال أوبي معه والطير) أو رفعها ، ، ولا في اختلافهم في ضم الفاء أو فتحها في الآية : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ولا في اختلافهم في ضم الحاء أو كسرها في الآية : (وقالوا حجرا محجورا) ولا إلى اختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية : (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) . لا نشير إلى هذا النحو من اختلاف الروايات في القرآن فتلك مسالة معضلة نعرض لها ولما ينشا عنها من النتائج إذا أتيح أن ندرس تاريخ القرآن . إنما نشير إلى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل ، ويسبغه النقل ، وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي وعشيرته من قريش ، فقرأته كما كانت تتكلم ، فأمالت حيث لم تكن تميل قريش ، ومدت حيث لم تكن تمد ، وقصرت حيث لم تكن تقصر ، وسكنت حيث لم تكن تسكن ، وأدغمت أو أخفت ونقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفي ولا تنقل . فهذا النوع من اختلاف اللهجات له أثره الطبيعي اللازم في الشعر في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام . ولسنا نستطيع أن نفهم كيف استقامت أوزان الشعر وبحوره وقوافيه كما دونها الخليل لقبائل العرب كلها على ما كان بينها من تباين اللغات ، واختلاف اللهجات . وإذا لم يكن نظم القرآن ، وهو ليس شعرا ولا مقيدا بما يتقيد به الشعر ، قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل ، فكيف استطاع الشعر ، وهو مقيد بما تعلم من القيود ، أن يستقيم لها ! وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقي ، أي كيف لم توجد صلة واضحة ، بين هذه الاختلاف في اللهجة ويبن الأوزان الشعرية التي كانت تصطنعها القبائل ؟ ستقول : ولكن اختلاف اللهجات كان قائما بعد القرآن ، وليس من شك في أن قبائل العرب على اختلافها قد تعاطت الشعر بعد الإسلام ولم يظهر فيه اختلاف اللهجات ، فكما استقامت بحوره وأوزانه على هذا الاختلاف بعد الإسلام ، فليس ما يمنع أن تكون قد استقامت عليه في العصر الجاهلي . ولست أنكر أن اختلاف اللهجات كان حقيقة واقعة بعد الإسلام . ولست أنكر أن الشعر قد استقام للقبائل كلها رغم هذا الاختلاف . ولكني أظن أنك تنسى شيئا يحسن ألا تنساه ، وهو أن القبائل بعد الإسلام قد اتخذت للأدب لغة غير لغتها ، ، وتقيدت في الأدب بقيود لم تكن لتتقيد بها لو كتبت أو شعرت في لغتها الخاصة ، أي أن الإسلام قد فرض على العرب جميعا لغة عامة واحدة هي لغة قريش . فليس غريبا أن تقييد هذه القبائل بهذه اللغة الجديدة في شعرها ونثرها في أدبها بوجه عام فلم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام يقوله بلغة تميم او قيس ولهجتها . ومثل ذلك واضح في غير اللغة العربية من اللغات القديمة والحديثة . وكان للدوريين من اليونان شعرهم الدوري وأوزانهم الدورية ، وكان لليونيين شعرهم اليوني وأوزانهم اليونية . ثم لما ظهرت أثينا على البلاد اليونانية عامة ذاع الشعر اليوني والأوزان اليونية والنثر الأتيكي ، وأصبح الدوريون إذا نظموا أو نثروا يصطنعون ما كان يصطنع في أثينا من مناهج النظم والنثر ، ويصطنعون اللغة اليونية التي هذبها مذهب الأثنيين في الكلام ، فهم كانوا يعدلون عن لغاتهم وأوزانهم وأساليبهم . وكذلك فعل العرب بعد الإسلام : عدلوا في لغتهم الأبدية عن كل ما كانت تمتاز به لغتهم ولهجتهم الخاصة إلى لغة القرآن ولهجتها . والأمر كذلك في الأمم الحديثة ذات الأقاليم المتنائية . والأطراف المتباعدة والتكوين الجنسي المعقد . ولست أضرب لذلك إلا مثلا واحدا حيا هو مثل فرنسا . ففي فرنسا إلى جانب اللغة الفرنسية لغات إقليمية لها نحوها ولها قوامها الخاص ولها شعرها ؛ ومع ذلك فأهل الأقاليم إذا أرادوا أن يظهروا آثارا أدبية أو علمية قيمة يعدلون عن لغتهم الإقليمية إلى اللغة الفرنسية . وقليل جدا من بينهم من يذهب مذهب (ميسترال) فيكتب في لغته الإقليمية الخاصة . وأنا أشعر بالحاجة إلى أن أضرب مثلا آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي ؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب . ذلك أن في لغتنا المصرية العصرية لهجات مختلفة وأنحاء متباينة من أنحاء القول ، فلأهل مصر العليا لهجاتهم ، ولأهل مصر الوسطى لهجاتهم ، ولأهل القاهرة لهجاتهم ، ولأهل مصرالسفلى لهجاتهم . وهناك اتفاق مطرد بين هذه اللهجات وبين ما للمصريين من شعر في لغتهم العامية ، فأهل مصر العليا يصطنعون أوزانا لا يصطنعها أهل القاهرة ولا أهل الدلتا ، وهؤلاء يصطنعون أوزانا لا يصطنعها أهل مصر العليا . وهذا ملائم لطبيعة الأشياء . فما كان للشعر أن يخرج عما ألف أصحابة من لغة ولهجة في الكلام . ومع هذا كله فنحن حين ننظم للشعر الأدبي أو نكتب النثر الأدبي والعلمي نعدل عن لغتنا ولهجتنا الإقليمية إلى هذه اللغة واللهجة التي عدل إليها العرب بعد الإسلام وهي لغة قريش ولهحة قريش ، أي لغة القرآن ولهجته . * * * * * فالمسألة إذن هي أن نعلم : أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية ، واخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده؟ أما نحن فنتوسط ونقول : إنها سادت قبل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين أخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية . ولكن سيادة لغة قريش قبيل الإسلام لم تكن شيئا يذكر ولم تكد تتجاوز الحجاز . فلما جاء الإسلام عمت هذه السيادة و سار سلطان اللغة واللهجة مع السلطان الديني جنبا لجنب . وإذن فنحن إذا استطعنا أن نفسر اتفاق اللغة واللهجة في شعر . أولئك الذين عاصروا النبي من أهل الحجاز ، فلن نستطيع أن نفسره في شعر الذين لم يعاصروه أو لم يحاوروه . ولندع هذه المسألة الفنية الدقيقة التي نعترف بأنها في حاجة إلى تفصيل وتحقيق أوسع وأشمل مما يسمح لنا به المقام في هذا الفصل إلى مسألة أخرى ليست أقل منها طرا ، وإن كان أنصار القديم سيجدون في فهمها شيئا من العسر والمشقة ؛ لأنهم لم يتعودوا مثل هذه الريبة في البحث العلمي . وهي أنا نلاحظ أن العلماء قد اتخذوا هذه الشعر الجاهلي مادة للاستشهاد على ألفاظ القرآن والحديث ونحوهما ومذاهبهما الكلامية . ومن الغريب أنهم لا يكادون يجدون في ذلك مشقة ولا عسرا ، حتى إنك لتحس كأن هذا الشعر الجاهلي إنما قـُدّ على قـَدّ القرآن والحديث كما يقد الثوب على قد لابسه لا يزيد ولاينقص عما أراد طولا وسعة . إذن فنحن نجهر بأن هذا ليس من طبيعة الأشياء ، وأن هذه الدقة في الموازاة بين القرآن والحديث والشعر الجاهلي لا ينبغي أن تحمل على الاطمئنان إلا الذين رزقوا حظا من السذاجة لم يتح لنا مثله . إنما يجب أن تحملنا هذه الدقة والموازاة على الشك والحيرة وعلى أن نسأل أنفسنا : أليس ممكن ألا تكون هذه الدقة في الموازاة نتيجة من نتائج المصادفة ، وإنما هي شيء تكلف وطلب وانفق فيه أصحابه بياض الأيام وسواد الليالي ؟ يجب أن نكون على حظ عظيم جدا من السذاجة لنصدق أن فلانا أقبل على ابن عباس وقد أعد له طائفة من المسائل تتجاوز المائتين حول لغة القرآن فأخذ يلقي عليه المسألة فإذا أجاب عليه سأله : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ فيقول : نعم ! قال امرؤ القيس أو قال عنترة أو قال غيرهما من الشعراء . . . وينشد بيتا لا تشك إن كنت من أهل الفقه في أنه إنما وضع ليثبت صحة اللفظ الذي يستشهد عليه من ألفاظ القرآن ! وهنا نمس أمرا من هذه الأمور التي سيغضب لها أنصار الأدب القديم ، ولكننا سنمضي في طريقنا كما بدأنا لا مواربين ولا مخادعين : أليس من الممكن أن تكون قصة ابن عباس ونافع بن الأزرق قد وضعت في تكلف وتصنع لغرض من هذه الأغراض المختلفة التي كانت تدعو إلى وضع الكلام وانتحاله ، لإتبات أن ألفاظ القرآن كلها مطابقة للفصيح من لغة العرب ، أو لإثبات ان عبدالله بن عباس كان من أقدر الناس على تأويل القرآن وتفسيره ومن أحفظهم لكلام العرب الجاهليين ؟ وأنت تعلم أن ذاكرة ابن عباس كانت مضرب المثل في القرن الثاني والثالث للهجرة . وأنت تذكر قصته مع نافع بن الأزرق هذا ، وعمرو بن أبي ربيعة حين أنشده : "أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكرُ" ، وأنت تعلم أن عبدالله بن عباس كان له مولى أخذ عنه العلم ونقله إلى الناس ودس على مولاه شيئا كثيرا ، وهو عكرمة . وأنت تعلم أن اثبات هذا الحفظ الكثير لعبدالله ابن عباس لم يكن يخلو من فائدة سياسية ، لأن ابن عباس روى أشياء كثيرة أو رويت عنه أشياء كثيرة تنفع الشيعة ، ولأن ابن عباس أجاب نافع بن الأزرق حين قال له : ما رأيت أحفظ منك يا بن عباس ، بقوله : ما رأيت أحفظ من علي . وأنت تعلم أن هناك حديثا ترويه الشيعة يجعل النبي مدينة العلم ، ويجعل عليا بابها . بل أليس يمكن أن تكون قصة ابن عباس هذه قد وضعت في سذاجة وسهولة ويسر ، لا لشيء إلا هذا الغرض التعليمي اليسير ، وهو أن يسمع الطالب لفظا من ألفاظ القرآن ويجد الشاهد عليه من غير مشقة ولا عناء ، أراد أحد العلماء أن يفسر طائفة من ألفاظ القرآن فوضع هذه القصة واتخذها سبيلا إلى ما أراد ؟ ولعل لهذه القصة أصلا يسيرا جدا ، لعل نافعا سأل ابن عباس عن مسائل قليلة فزاد فيها هذا العالم ومدها حتى أصبحت رسالة مستقلة يتداولها الناس . وهذا النحو من التكلف والانتحال للاغراض التعليمية الصرفة كان شائعا معروفا في العصر العباسي ولا سيما في القرن الثاث والرابع . ولست أريد أن أطيل ولا أن أتعمق في إثبات هذا ؛ إنما أحيلك إلى كتاب "الأمالى لأبي على القالي" وإلى ما يشبهه من الكتب فسترى طائفة من الأحاجي والأوصاف تنسب إلى الأعراب رجالا ونساء شبابا وشيبا ، سترى مثلا بنات سبعا اجتمعن وتواصفن أفراس آبائهن فتقول كل واحدة منهن في فرس أبيها كلاما غريبا ومسجوعا يأخذه أهل السذاجة على أنه قد قيل حقا ، في حين أنه لم يقل ، وإنما كتبه معلم يريد أن يحفظ تلاميذه أوصاف الخيل وما يقال فيها ، أرى عالم يريد أن يتفيهق ويظهر كثرة ما وعى من العلم . وقل مثل ذلك في سبع بنات اجتمعن وتواصفن المثل الأعلى للزوج الذي تطمع فيه كل واحدة منهن ، فأخذن يقلن كلاما غريبا مسجوعا في وصف الرجولة والفتوة والتعريض أو التلميح إلى ما تحب المرأة من الرجل . ومثل هذا كثيرا شعرا ونثرا وسجعا ، تجده في الأمالي والعقد الفريد وديوان المعاني لأبي هلال وغيرها من الكتب . وأكاد أعتقد أن هذا النحو من الانتحال هو أصل المقامات وما يشبهها من هذا النوع من أنواع الإنشاء . ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر ، فلأعد إليه لأقول ما كنت أقول منذ حين ، وهو أن من الحق علينا لأنفسنا و للعلم أن نسأل : أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل حياة العرب الجاهليين لا عقليتهم ولا دياناتهم ولا حضاراتهم بل لا يمثل لغتهم ، أليس هذا الشعر قد وضع وضعا وحمل على أعصابه حملا بعد الإسلام ؟ أما أنا فلا أكاد أشك الآن في هذا . ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت لنا هذه النظرية أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر وانتحاله بعد الإسلام . ليس الانتحال مقصورا على العرب يجب أن يتعود الباحث درس تاريخ الأمم القديمة التي قدر لها أن تقوم بشيء من جلائل الأعمال ، وما اعترض حياتها من الصعاب والمحن وألوان الخطوب والصروف ، ليفهم تاريخ الأمة العربية على وجهه ويرد كل شيء فيه إلى أصله . وإذا كان هناك شيء يوخذ به الذين كتبوا تاريخ العرب وآدابهم فلم يوفقوا إلى الحق فيه ، فهو أنهم لم يلموا إلماما كافيا بتاريخ هذه الأمم القديمة ، أو لم يخطر لهم أن يقارنوا بين الأمة العربية والأمم التي خلت من قبلها ؛ وإنما نظروا إلى هذه الأمة العربية كأنها أمة فذة لم تعرف أحدا ولم يعرفها أحد ، لم تشبه أحدا ولم يشبهها أحد ، لم تؤثر في أحد ولم يوثر فيها أحد ، قبل قيام الحضارة العربية وانبساط سلطانها على العالم القديم . والحق أنهم لو درسوا تاريخ هذه الأمم القديمة وقارنوا بينه وبين تاريخ العرب لتغير رأيهم في الأمة العربية ، ولتغير بذلك تاريخ العرب أنفسهم ، ولست أذكر من هذه الأمم القديمة إلا أمتين اثنتين : الأمة اليونانية والأمة الرومانية . فقد قدر لهاتين الأمتين في العصور القديمة مثل ما قدر للأمة العربية في العصور الوسطى . كلتاهما تحضرت بعد بداوة . وكلتاهما خضعت في حياتها الداخلية لهذه الصروف السياسية المختلفة . وكلتاهما انتهت إلى نوع من التكوين السياسي دفعها إلى أن تتجاوز موطنها الخاص وتغير على البلاد المجاورة وتبسط سلطانها على الأرض . وكلتاهما لم تبسط سلطانها على الأرض عبثا وإنما نفعت وانتفعت وتركت للإنسانية تراثا قيما لا تزال تنتفع به إلى الآن : ترك اليونان فلسفة وأدبا ، وترك الرومان تشريعا ونظاما . وكذلك كان شأن هذه الأمة العربية ، تحضرت كما تحضر اليونان والرومان بعد البداوة ، وتأثرت كما تأثر اليونان والرومان بضروف سياسية مختلفة ، انتهى بها تكوينها السياسي إلى مثل ما انتهى التكوين الساسي لليونان والرومان إليه من تجاوز الحدود الطبيعية وبسط السلطان على الأرض ، وتركت كما ترك اليونان والرومان للإنسانية تراثا قيما خالدا فيه أدب وعلم ودين . وليس من العجب في شيء أن تكون العوارض التي عرضت لحياة العرب على اختلاف فروعها مشابهة للعوارض التي عرضت لحياة اليونان والرومان من وجوه كثيرة . وفي الحق أن التفكير الهادئ في حياة هذه الأمم الثلاث ينتهي بنا إلى نتائج متشابهة إن لم نقل متحددة . ولم لا ؟ أليست هذه الإشارة التي قدمنها إلى ما بين هذه الأمم الثلاث من شبه تكفي لتحملك على أن تفكر في أن مؤثرات واحدة أو متقاربة قد أثرت في حياة هذه الأمم فانتهت إلى نتائج واحدة أو متقاربة ! ولسنا نريد أن نترك الموضوع الذي نحن بإزائه للبحث عما يمكن أن يكون من اتفاق أو افتراق بين العرب واليونان والرومان ؛ فنحن لم نكتب لهذا ، وإنما نريد أن نقول إن هذه الظاهرة الأدبية التي نحاول أن ندرسها في هذا الكتاب والتي يجزع لها أنصار القديم جزعا شديدا ليست مقصورة على الأمة العربية ، وإنما تتجاوزها إلى غيرها من الأمم القديمة ، ولا سيما هاتين الأمتين الخالدتين . فلن تكون الأمة العربية أول أمة انتحل فيها الشعر انتحالا وحمل على قدمائها كذبا وزوراً ، وإنما انتحل الشعر في الأمة اليونانية والرومانية من قبل وحمل على القدماء من شعرائها ، وانخدع به الناس وآمنوا له ، ونشأت عن هذا الانخداع والإيمان سنة أدبية توارثها الناس مطمئنين إليها ، حتى كان العصر الحديث وحتى استطاع النقاد من أصحاب التاريخ والأدب واللغة والفلسفة أن يردوا الأشياء إلى أصولها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا . وأنت تعلم أن حركة النقد هذه بالقياس إلى اليونان والرومان لم تنته بعد ، وأنها لن تنتهي غدا ولا بعد غد ، وأنت تعلم أنها قد وصلت إلى نتائج غيرت تغيرا تاما ما كان معروفا متوارثا من تاريخ هاتين الأمتين وآدابهما . وأنت إذا فكرت فستوافقني على أن منشأ هذه الحركة النقدية إنما هو في حقيقة الأمر تأثر الباحثين في الأدب والتاريخ بهذا المنهج الذي دعوت إليه في أول هذا الكتاب ، وهو منهج (ديكارت) الفلسفي . وسواء رضينا أم كرهنا فلا بد من أن تتأثر بهذا المنهج في بحثنا العلمي والأدبي كما تأثر من قبلنا به أهل الغرب . ولا بد من أن نصطنعه في نقد آدابنا وتاريخنا كما اصطنعه أهل الغرب في نقد آدابهم وتاريخهم . ذلك لأن عقليتنا نفسها قد أخذت منذ عشرات من السنين تتغير وتصبح غربية ، أو قل أقرب إلى الغربية منها إلى الشرقية . وهي كلما مضى عليها الزمن جدّت في التغير وأسرعت في الاتصال بأهل الغرب . وإذا كان في مصر الآن قوم ينصرون القديم ، وآخرون ينصرون الجديد ، فليس ذلك إلا لأن في مصر قوما قد اصطبغت عقليتهم بهذه الصبغة الغربية ، وآخرين لم يظفروا منها بحظ أو لم يظفروا منها إلا بحظ قليل . وانتشار العلم الغربي في مصر وازدياد من يوم إلى يوم ، واتجاه الجهود الفردية والاجتماعية إلى نشر هذا العلم الغربي ؛ كل ذلك سيقضي غدا أو بعد غد بأن يصبح عقلنا غربيا ، وبأن ندرس آداب العرب وتاريخهم متأثرين بمنهج (ديكارت) كما فعل أهل الغرب في درس آدابهم وآداب اليونان والرومان . ولقد أحب أن تلم إلماماً قليلا بأي كتاب من هذه الكتب الكثيرة التي تنشر الآن في أوروبا في تاريخ الآداب اليونانية أو اللاتينية ، وأن تسأل نفسك بعد هذا الإلمام ماذا بقى مما كان يعتقده القدماء في تاريخ الآداب عند هاتين الأمتين : أحق ما كان يعتقد القدماء في شأن الإلياذة والأودِسّا ؟ أحق ما كانوا يتحدثون به بل ما كانوا يؤمنون به في شأن (هوميروس) و (هيريودوس) وغيرهما من الشعراء القصصين ؟ أحق ما كان القدماء يتخذونه أساسا لسياستهم وعلمهم وأدبهم وحياتهم كلها من أخبار اليونان والرومان ؟ إن من اللذيد حقا أن تقرأ ما كتب (هيرودوت) في تاريخ اليونان ، و (تيتوس ليفوس) في تاريخ الرومان ، وما يكتب المحدثون الآن في تاريخ هاتين الأمتين . ولكنك لا تكاد تجد شيئا من الفرق بين ما كان يتحدث به ابن اسحاق ويرويه الطبري من تاريخ العرب وآدابهم ، وما يكتبه المؤرخون والأدباء عن العرب في هذا العصر . ذلك لأن الكثرة من هؤلاء المؤرخين والأدباء لم تتأثر بعدُ بهذا المنهج الحديث ، ولم تستطع بعدُ أن تؤمن بشخصيتها وأن تخلص هذه الشخصية من الأوهام والأساطير . وإذا كان قد قدر لهذا الكتاب ألا يرضي الكثرة من هؤلاء الأدباء والمؤرخين فنحن واثقون بأن ذلك لن يضيره ولن يقلل من تأثيره في هذا الجيل الناشئ . فالمستقبل لمنهج (ديكارت) لا لمنهج القدماء . السياسة وانتحال الشعر قلت إن العرب قد خضعوا لمثل ما خضعت له الأمم القديمة من المؤثرات التي دعت إلى انتحال الشعر والأخبار . ولعل أهم هذه المؤثرا التي طبعت الأمة العربية وحياتها بطابع لا يمّحي ولا يزول هو هذا المؤثر الذي يصعب تمييزه والفصل فيه ؛ لأنه مزاج من عنصرين قويين جدا ، هما الدين والسياسة . والحق أن لا سبيل إلى فهم التاريخ الإسلامي مهما تختلف فروعه إلا إذا وضحت هذه المسألة (مسألة الدين والسياسة) توضيحا كافيا . فقد أرادت الظروف ألا يستطيع العرب منذ ظهر الإسلام أن يخلصوا من هذين المؤثرين في لحظة من لحظات حياتهم في القرنين الأول والثاني . هم مسلمون لم يظهروا على العالم إلا بالإسلام ؛ فهم محتاجون إلى أن يعتزوا بهذا الإسلام ويرضوه ويجدوا في اتصالهم به ما يضمن لهم هذا الظهور وهذا السلطان الذي يحرصون عليه . وهم في الوقت نفسه أهل عصبية وأصحاب مطامع ومنافع ، فهم مضطرون إلى أن يرعوا هذه العصبية ويلائموا بينها وبين منافعهم ومطامعهم ودينهم . وإذن فكل حركة من حركاتهم وكل مظهر من مظاهر حياتهم متأثر بالدين ، متأثر بالسياسة . وإذا كانت حياتهم كما نصف تأثرا متصلا بالدين والسياسة ، واجتهادا متصلا في التوفيق بينهما ، أو بعبارة أصح في الاستفادة منهما جميعا ، فخليق بالمؤرخ السياسي أو الادبي أو الاجتماعي أن يجعل مسألة الدين والسياسة عند العرب أساسا للبحث عن الفرع الذي يريد أن يبحث عنه من فروع التاريخ . وسترى عندما نتعمق بك قليلا في هذا الموضوع أنا لسنا غلاة ولا مخطئين . وأول ما يحسن أن نلاحظه ، هو هذا الجهاد العنيف الذي اتصل بين النبي وأصحابه من ناحية ، وبين قريش وأوليائها من ناحية أخرى . أما في أول عهد الإسلام بالظهور حين كان النبي وأصحابه في مكة مستضعفين فقد كان هذا الجهاد جدليا خالصا ، وكان النبي يكاد يقوم به وحده بإزاء الكثرة المطلقة من قومه ، يجادلهم بالقرآن ويقارعهم بهذه الآيات المحكمات ، فيبلغ منهم ويفحمهم ويضطرهم إلى الإعياء . وهو كلما بلغ من ذلك حظا انتصر له من قومه فريق حتى تكوّن له حزب ذو خطر ، ولكنه لم يكن حزبا سياسيا ، ولم يكن يطمع في ملك ولا تغلـّب ولا قهر ، أو لم يكن ذلك في دعوته . غير أن هذا الحزب كان كلما اشتدت قوته وقوي أسره اشتدت مناضلة قريش له وفتنتها إياه حتى كان ما تعلم من الهجرة الأولى ثم من هجرة النبي إلى المدينة . وليس هنا موضع البحث عن هذه الهجرة إلى المدينة ، وعما أعد الأنصار لنصر النبي وإيوائه ، وعن النتائج المختلفة التي أنتجتها الهجرة . ولكنا نستطيع أن نسجل مطمئنين أن هذه الهجرة قد وضعت مسألة الخلاف بين النبي وقريش وضعا جديدا ، جعلت الخلاف سياسيا يعتمد في حله على القوة السيف بعد أن كان من قبل دينيا يعتمد على الجدال والنضال بالحجة ليس غير . * * * * * منذ هاجر النبي إلى المدينة تكوّنت للإسلام وحدة سياسية لها قوتها المادية وبأسها الشديد ، وأحست قريش أن الأمر قد تجاوز الأوثان والآراء الموروثة والسنن القديمة ، إلى شيء آخر كان فيما يظهر أعظم خطرا في نفوس قريش من الدين وما يتصل به ، وهو السيادة السياسية في الحجاز ، والطرق التجارية بين مكة وبين البلاد التي كانت ترحل إليها بتجارتها في الشتاء والصيف . وأنت تعلم أن الإستيلاء على العير هو أصل الواقعة الكبرى الأولى بين النبي وقريش في بدر . فليس من شك إذن في أن الجهاد بين النبي وقريش قد كان دينيا خالصا ما أقام النبي في مكة . فلما انتقل إلى المدينة أصبح هذا الجهاد دينيا وسياسيا واقتصاديا ، وأصبح موضوع النزاع بين قريش والمسلمين ليس مقصورا على أن الإسلام حق أو غير حق ، بل هو يتناول مع ذلك الأمة العربية أو الحجازية على أقل تقدير لمن تذعن ، والطرق التجارية لمن تخضع . وعلى هذا النحو وحده تستطيع أن تفهم سيرة النبي منذ هاجر إلى المدينة لا مع قريش وحدها بل مع غيرها من العرب ، بل مع اليهود أيضا . ولكننا لا نكتب تاريخ النبي ، وإنما نريد أن نصل مسرعين إلى ما يعنينا من هذا كله ، وهو أن استحالة الجهاد إلى جهاد سياسي بعد أن كان جهادا دينيا قد استحدث عداوة بين مكة والمدينة ، أو بين قريش والأنصار لم تكن موجودة من قبل . فالسيرة تحدثنا بأن صلاة المودة كانت قوية بين قريش وبين الأوس والخزرج قبل أن يهاجر النبي إلى المدينة . وكان ذلك معقولا وطبيعيا ؛ فقد كان الأوس والخزرج على طريق قريش إلى الشام . ولم يكن بد لهذه المدينة التجارية التي تسمى مكة من أن تؤمن طرقها التجارية وتوثق صلات الود مع الذين يستطيعون أن يعرّضوا هذه الطرق للخطر . نشأت إذن بعد الهجرة عداوة بين مكة والمدينة ، وما إلا أن اصطبغت هذه العداوة بالدم يوم انتصر الانصار في "بدر" ويوم انتصرت قريش في "أحد" . وما هي إلا أن اشترك الشعر في هذه العداوة مع السيف ، فوقف شعراء الأنصار وشعراء قريش يتهاجون ويتجادلون ويتناضلون ، يدافع كل فريق عن أحسابه وأنسابه ويشيد بذكر قومه . ثم كان الموقف دقيقا ، فقد كان شعراء الأنصار يدافعون قريشا عن النبي وأصحابه وهم من قريش ؛ وكان شعراء قريش يهجون مع الأنصار النبي وأصحابه ، وهم من خلاصة قريش . ويجب أن يكون هذا الهجاء قد بلغ أقصى ما يمكن من الحدة والعنف ؛ فإن النبي كان يحرّض عليه ، ويثيب أصحابه ويقدّمهم ويعِدهم ، مثل ما كان يعد المقاتلين من الأجر المثوبة عند الله ، ويتحدّث أن جبريل كان يؤيد حساناً . كثر الهجاء إذن واشتد بين قريش والأنصار لما كثرت الحرب واشتدت . وأنت تعلم مقدار حظ العرب من العصبية وحرصهم على الثأر للدماء المسفوكة ، وجدّهم في الدفاع عن الأعراض المنتهكة . فليس غريبا أن تبلغ الضغينة بين هذين الحيين من أهل الحجاز أقصى ما كانت تستطيع أن تبلغه . ولقد مضت قريش في جهادها بالسنان واللسان والأنفس والأموال ، وأعانها من أعانها من العرب واليهود ، ولكنها لم توفق . وأمست ذات يوم وإذا خيل النبي قد أظلـّت مكة ، فنظر زعيمها وحازمها أبو سفيان فإذا هو بين اثنين : إما أن يمضي في المقاومة فتفنى مكة ، وإما أن يصانع ويصالح ويدخل فيما دخل فيه الناس وينتظر لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من مكة إلى المدينة ومن قريش إلى الأنصار أن يعود إلى قريش وإلى مكة مرة أخرى . أسلم أبو سفيان وأسلمت معه قريش ، وتمت للنبي هذه الوحدة العربية ، وألقي الرماد على هذه النار التي كانت متأججة بين قريش والأنصار ، وأصبح الناس جميعا في ظاهر الأمر إخوانا مؤتلفين في الدين . ولعل النبي لو عمّر بعد فتح مكة زمنا طويلا لاستطاع أن يمحو تلك الضغائن ، وأن يوجه نفوس العرب وجهة أخرى ، ولكنه توفى بعد الفتح بقليل ، ولم يضع قاعدة للخلافة ، ولا دستورا لهذه الامة التي جمعها بعد فرقة . فأي غرابة في أن تعود هذه الضغائن إلى الظهور ، وفي أن تستيقظ الفتنة بعد نومها ، وفي أن يزول هذا الرماد الذي كان يخفي تلك الأحقاد ! وفي الحق أن النبي لم يكد يدع هذه الدنيا حتى اختلف المهاجرون من قريش والأنصار من الأوس والخزرج في الخلافة أين تكون ؟ ولمن تكون ؟ وكاد الأمر يفسد بين الفريقين لولا بقية من دين وحزم نفر من قريش ، ولولا أن القوة المادية كانت إذ ذاك إلى قريش . فما هي إلا أن أذعنت الأنصار وقبلوا أن تخرج منهم الإمارة إلى قريش . وظهر أن الأمر قد استقر بين الفريقين ، وأنهم قد أجمعوا على ذلك لا يخالفهم فيه إلا سعد بن عُبادة الأنصاري الذي أبى أن يبايع أبا بكر ، وأن يبايع عمر ، وأن يصلي بصلاة المسلمين ، وأن يحج بحجهم . وظل يمثل المعارضة قوي الشكيمة ماضي العزيمة ، حتى قتل غيلة في بعض أسفاره . قتله الجن فيما يزعم الرواة . وانصرفت قوة قريش والأنصار إلى ما كان من انتقاض العرب على المسلمين أيام أبي بكر ، وإلى ما كان من الفتوح أيام عمر . ولكن المقيمين من أولئك وهؤلاء في مكة والمدينة لم يكونوا يستطيعون أن ينسوا تلك الخصومة العنيفة التي كانت بينهم أيام النبي ، ولا تلك الدماء التي سفكت في الغزوات . وليس من شك في أن حزم عمر قد حال بين المهاجرين والأنصار ، أو بعبارة أصح : بين قريش والأنصار وبين الفتنة . فالرواة يحدثوننا أن عمر نهى عن رواية الشعر الذي تهاجى به المسلمون والمشركون أيام النبي . وهذه الرواية نفسها تثبت رواية أخرى ، وهي أن قريشا والأنصار تذاكروا ما كان قد هجى به بعضهم بعضا أيام النبي ؛ وكانوا حراصا على روايته يجدون في ذلك من اللذة والشماتة ما لا يشعر به إلا صاحب العصبية القوية إذا وتر أو انتصر . وقد ذكر الرواة أن عمر مر ذات يوم فإذا حسان في نفر من المسلمين ينشدهم شعرا في مسجد النبي ؛ فأخذ بإذنه وقال : أرغاء كرغاء البعير ؟ قال حسان : إليك عني يا عمر ، فوالله كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك فيرضى ؛ فمضى عمر وتركه . وفقه هذه الرواية يسير لمن يلاحظ ما قدّمنا من أن الأنصار كانوا موتورين ، وأن عصبيتهم كانت لا تطمئن إلى انصراف الأمر عنهم ، فكانوا يتعزّون بنصرهم للنبي وانتصافهم من قريش وما كان لهم من البلاء قبل موت النبي وما أفادوا بأيديهم وألسنتهم من مجد . وكان عمر قرشِياً تكره عصبيته أن تـُزدرى قريش ، وتنكر ما أصابها من هزيمة ، وما أشيع عنها من مكر . وكان فوق هذا كله أميرا حازما يريد أن يضبط أمور الرعية ، وأن يؤسس ملك المسلمين على شيء غير العصبية . وقد وفق بعض التوفيق ، ولكنه لم يظفر بكل ما كان يريد . تحدّث الرواة أن عبد الله بن الزّبعرى وضرار بن الخطاب قدِما المدينة أيام عمر فذهبا إلى أبي أحمد بن جحش ، وكان رجلا ضريرا حسن الحديث يألفه الناس ويتحدثون عنده ، قالا جئناك لتدعوا لنا حسان بن ثابت لينشدنا وننشده ؛ قال : هو ما تريدان ، وأرسل إلى حسان فجاء ؛ قال : هذان أخواك قد أقبلا من مكة يريدان أن يسمعاك ويُسمعا لك ؛ قال حسان : إن شئتما فابدءا وإن شئتما بدأت ؛ قالا : بل نبدأ ، فأخذا ينشدانه مما قالت قريش في الأنصار حتى فار وأخذ يغلي كالمرجل ، فلما فرغا استوى كل منهما إلى راحلته ومضيا إلى مكة . وذهب حسان مغضبا إلى عمر وقص عليه الخبر ؛ قال عمر : سأردهما عليك إن شاء الله . ثم أرسل من ردّهما ؛ حتى إذا كانا بين يدي عمر ومعه نفر من أصحاب النبي ، قال لحسان : أنشدهما ما شئت ؛ فأنشدهما حتى اشتفى . وقال عمر بعد ذلك - فيما يحدثنا صاحب الأغاني - : قد كنتُ نهيتكم عن رواية هذا الشعر لأنه يوقظ الضغائن ، فأما إذا أبوا فاكتبوه . وسواء أقال عمر هذا أم لم يقله ، فقد كان الأنصار يكتبون هجاءهم لقريش ويحرصون على أن لا يضيع . قال ابن سلام : وقد نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية ، فاستكثرت منه في الإسلام . وليس من شك عندي في أنها استكثرت بنوع خاص من هذا الشعر الذي يُهجى فيه الأنصار . ولما قتل عمر وانتهت الخلافة بعد المشقة إلى عثمان ، تقدمت الفكرة السياسية التي كانت تشغل أبا سفيان خطوة أخرى ، فلم تصبح الخلافة في قريش فحسب ، بل أصبحت في بني أمية خاصة . واشتدت عصبية قريش ، واشتدت عصبية الأمويين ، واشتدت العصبيات الأخرى بين العرب ، وقد هدأت حركة الفتح ، وأخذ العرب يفرغ بعضهم لبعض . وكان من نتائج ذلك ما تعلم من قتل عثمان وافتراق المسلمين وانتهاء الأمر كله إلى بني أمية بعد تلك الفتن والحروب . في ذلك الوقت تغيرت خطة الخليفة السياسية أو بعبارة أدق : فشلت هذه الخطة التي كان يختطها عمر ، وهي منع العرب أن يتذاكروا ما كان بينهم من الضغائن قبل الإسلام . وعاد العرب إلى شر مما كانوا فيه في جاهليتهم من التنافس والتفاخر في جميع الأمصار الإسلامية . ويكفي أن أقص عليك ما كان من تنافس الشعراء من الأنصار وغيرهم عند معاوية ويزيد بن معاوية ، لتعلم إلى أي حد عاد العرب في ذلك الوقت إلى عصبيتهم القديمة . ولعلك قرأت تلك القصة التي تخبرنا بأن عبد الرحمن بن حسان شبب برملة بنت معاوية نكاية في بني أمية . فأما معاوية فاصطنع الحلم كعادته ، وقال لعبد الرحمن : فأين أنت من أختها هند ! وأما يزيد فقد كان صورة لجده أبي سفيان ، كان رجل عصبية وقوة وفتك وسخط على الإسلام وما سنه للناس من سنن ، فأغرى كعب بن جعيْل بهجاء الانصار ؛ فاستعفاه وقال : أتريد أن تردني كافرا بعد إسلام ؟ فأغرى الأخطل وكان نصرانيا فأجابه وهجا الأنصار هجاءً مقذعا مشهورا . قلت أن يزيد كان صورة صادقة لجده أبي سفيان ، يؤثر العصبية على كل شيء . وأنت لا تنكر أن يزيد صاحب وقعة الحرّة التي انتهكت فيها حرمات الأنصار في المدينة ، والتي انتقمت فيها قريش من الذين انتصروا عليها في بدر ، والتي لم تقم للأنصار بعدها قائمة . ولأمر ما يقول الرواة حين يقصون وقعة الحرّة إنه قد قتل فيها ثمانون من الذين شهدوا بدراً ، أي من الذين أذلوا قريشاً . ولستُ في حاجة أن أقص عليك هذه القصة الأخرى التي تمثل لنا عمرو بن العاص وقد ضاق ذرعا بالأنصار حتى كره اسمهم هذا ، وطلب إلى معاوية أن يمحوه ، واضطر النعمان بن بشير وهو الأنصاري الوحيد الذي شايع بني أمية إلى أن يقول : يا سعدُ لاتجب الدعاء فما لنا .... نسبٌ نجيب به سوى الأنصارِ نسبٌ تخيّره الإلـه لقومنـا .... أثقِل بـه نســبا على الكفارِ إن الذيـن ثـووا ببدرٍ منكمُ .... يـوم القليبِ هُمُ وقـودُ النارِ وقد سمع معاوية هذا الشعر فلام عمْرا على تسرعه ليس غير . فلم يكن معاوية أقل بغضا للأنصار وتعصبا لقريش من مشيره عمرو ، أو ولي عهده يزيد . ولكن أصحاب هذه العصبية القرشية كانوا يتفاوتون فيما بينهم تفاوتا شديدا ، فكان منهم المسرف كيزيد ، المقتصد كمعاوية ، وكام منهم من يتجاوز الاقتصاد في العصبية إلى شيء يشبه العطف على الأنصار والرثاء لهم . ولعل الزبير بن العوام كان من هؤلاء العاطفين على الأنصار الراثين لهم الحافظين لعهدهم والراعين لوصية النبي فيهم ؛ فقد يحدثنا الرواة أنه مر بنفر من المسلمين فإذا فيهم حسان ينشدهم ، وهم غير حافلين بما يقول ؛ فلامهم على ذلك وذكرهم موقع شعر حسان من النبي ؛ وأثر ذلك في نفس حسان فقال يمدحه – وأحب أن تلتفت إلى أول هذا الشعر ، فهو حسن الدلالة على ما أريد أن أثبته من دخول الحزن على نفوس الانصار لهذا الموقف الجديد الذي وقفته منهم قريش – : أقــام على عهد النبي وهديه .... حواريّه والقـولُ بالفعل يعدلُ أقام على منهاجه وطريقه يوالي .... ولي الحق والحـقُّ أعــدلُ هو الفارس المشهور والبطل الذي .... يصول إذا ما كان يوم محجّلُ إذا كشفت عن ساقها الحرب حشّها .... بأبيضٍ سباقٍ إلى الموتِ يرفلُ وإن امــرأ كانت صفيّــة ُ أمّه .... ومن أسـد في بيتـها المرفلُ لـه من رسول الله قربى قريبـة .... ومن نصرة الإسلام مجدٌ مؤثلُ لكـم كربـة ذبّ الزبيـر بسيفه .... عن المصطفى والله يعطي فيجزلُ فمـا مثلـه فيهم ولا كان قبلـه .... وليس يكون الدّهــر ما دام يذبُلُ ثنــاؤك خيـر من فعال معاشر .... وفعـلكُ يابن الهاشميـة أفضـلُ فانظر إلى هذين البيتين في أول المقطوعة كيف يمثلان ذكر حسان لعهد النبي وحزنه عليه وأسفه على ما فات الأنصار من موالاة النبي لهم وإنصافهم إياهم . ولكن بقية هذه الأبيات تدعو إلى شيء من الاستطراد لا بأس به ؛ لأنه لا يتجاوز الموضوع كثيرا ؛ فقد يظهر من قراءة هذه الأبيات أنه قد قصد بها إلى الإلحاح في مدح الزبير وإحصاء مآثره . وقد يظهر أن في آخرها ضعفا لا يلائم قوة أولها . وقد روى هذه القصة نفر من آل الزبير ومن أحفاد عبد الله بن الزبير بالدقة . أفتستبعد أن تكون عصبية الزبيريين قد مدّت هذه الأبيات وطوّلتها وتجاوزت بها ما كان قد أراد حسان من الاعتراف بالجميل إلى ما كانت تريد العصبية الزبيرية من تفضيل الزبير على منافسيه أو على منافسي ابنه عبد الله بنوع خاص . واستطراد آخر لا بأس به ، لأنه يثبت ما نحن فيه أيضا ؛ فقد ذكرت لك ما كان من هجاء الأخطل للأنصار . وهم يتحدثون – كما رأيت – أن النعمان بن بشير غضب لهذا الهجاء وأنشد بين يدي معاوية أبياتا نرويها لك ، فسترى فيها مثل ما رأيت في أبيات حسان من أثر هذه العصبية التي تضيف إلى الشعراء ما لم يقولوا . وقد كان النعمان بن بشير في الأنصار يتعصب لقريش ولبني أمية ، أو قل يمالئهم التماسا للنفع عندهم . وقد تحدثوا أنه كان الأنصاري الوحيد الذي شهد صِفـِّين مع معاوية ، كما كان الزبير من هذه القلة القرشية التي كانت تعطف على الأنصار ذكراً لعهد النبي ، أو احتفاظاً بمودة الأنصار ليوم الحاجة . قال النعمان بن بشير لمعاوية : معاويَ إلا تعطنا الحقّ تعتـرف .... لحى الأزد مشدودا عليهـا العمائمُ أيشتمنا عبـدُ الأراقــم ضَلـّة .... وماذا الذي تجـدي عليك الأراقمُ فمــا ليَ ثأرٌ دون قطـع لسانه .... فدونك من تـُرضيه عنك الدراهمُ وراعِ رويـدا لا تسُمنا دنيّــة .... لعــلك في غِبِّ الحـوادث نادمُ متى تلقَ منـا عصبة خزرجيـة .... أو الأوسَ يوما تخترمك المخارمُ وتلقاك خيلٌ كالقطـا مستطيـرة .... شماطيط أرسالٌ عليهـا الشكائمُ يسوّمها العَمران عمرو بـن عامر .... وعِمـــرانُ حتى تستباح المحارمُ ويبدو من الخـوْد العزيـزة حجلها .... وتبيضّ من هـول السيوف المقادمُ فتطلب شعْب الصــدع بعـد التئامه .... فتغـريه فالآن والأمر ســـالمُ وإلا فثــوبي لأمــة تـُبّعيّــة .... تواريثُ آبـائي وأبيــضُ صارمُ وأسمــرُ خــطيٌّ كــأنّ كعوبـه .... نوى القسْب فيهـا لهْذميٌّ خـُثارمُ فإن كنتَ لم تشهـد ببــدر وقيعـة .... أذلت قريشـا والأنــوفُ رواغم فسائـل بنـا حيّيْ لؤيّ بـن غالب .... وأنت بما يخفى مـن الأمر عالمُ ألمْ تتبـدّر يـوم بـــدر سيوفنا .... وليلك عما نـاب قومـكَ قـاتمُ ضربناكُـمُ حتى تفـــرّق جمعكم .... وطـارت أكفٌ منكـُـمُ وجماجمُ وعادت على البيت الحـرام عرائس .... وأنت على خـوف عليـك التمائمُ وعضّت قريش بالأنـامل بـِغضَة .... ومن قبل ما عضّت عليك الأداهمُ فكنـا لهـا في كل أمـر نكيــدهُ .... مكان الشجـا والأمـرُ فيـه تفاقمُ فمـا إن رمى رامٍ فـأوهى صفاتنـا .... ولا ضامنا يوما من الدّهر ضائمُ وإني لأغضي عــن أمــور كثيرة .... سترقى بهـا يومـا إليك السلالمُ أصانـعُ فيهــا عبــدَ شمسٍ وإنني .... لتـلك التي في النفـس مني أكاتمُ فمـا أنت والأمــر الذي لستَ أهلهُ .... ولكـن وليّ الحـق والأمـرِ هاشمُ إليـهم يصيـر الأمـرُ بعــد شتاته .... فمـن لك بالأمـر الذي هـو لازمُ بهـم شـرّع الله الهـدى فاهتدى بهم .... ومنــهم لـه هــادٍ إمـامٌ وخاتمُ فظاهر جدا أن هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة على أقل تقدير قد حملت على النعمان بن بشير حملا ، حملها عليه الشيعة . ومع أننا نعلم أن الأنصار حين أخطأهم الحكم فاضطغنوا على قريش مالوا بطبيعة موقفهم السياسي إلى تأييد الحزب المناوئ لبني أمية ، فانضمّوا إلى علي ، فلسنا نشك في أن النعمان بن بشير لم يكن هاشمي المذهب ولا علويّ الرأي ، إنما كان أمويا أو بعبارة أصح : سُفيانيا . فلما أحس انتقال الأمر من آل أبي سفيان إلى مروان بن الحكم تحوّل عن الأمويين إلى إبن الزبير وقتل في ذلك . فأنت ترى إلى أي حد كانت العصبية قد انتهت بقريش والأنصار . وأنت ترى تأثيرها في الشعر والشعراء . وأن ترى من هذين الاستطرادين كيف استغلت العصبية الزبيرية والهاشمية شعر حسان وشعر النعمان بن بشير لمناهضة خصومها . ولكنني لم أفرغ بعدُ من أمر هذه العصبية بين قريش والأنصار وتأثيرها في الشعر والشعراء ، ولا أريد أن أدع هذه العصبية دون أن أذكر ما كان بين عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن الحكم أخي الخليفة مروان من هذا النضال العنيف الذي لم تبق لنا منه إلا آثار ضئيلة . والرواة يختلفون في أصل هذه المهاجاة بين هذين الرجلين . وهم مضطرون إلى أن يختلفوا ؛ فقد دخلت العصبية في الرواية أيضا . أما الأنصار فكانوا يتحدثون أن هذين الرجلين كانا صديقين ؛ ولكن عبد الرحمن بن حسان الأنصاري كان يحب امرأة صاحبه القرشيّ ويختلف إليها ؛ فبلغ ذلك صاحبه فراسل امرأة عبد الرحمن بن حسان ؛ وأنبأت هذه زوجها فاحتال حتى حمل امرأة صاحبه على أن تزوره في بيته ؛ وأخفاها في إحدى الحجر ؛ واحتالت امرأته حتى حملت القرشيّ على أن يزورها ؛ فلما استقر به المقام عندها أقبل زوجها فأرادت أن تخفيه فأدخلته في إحدى الحجر ، فإذا هو يرى امرأته ؛ ففسد الأمر بين الصديقين . وأما قريش فكانت تروي القصة نفسها ، ولكنها تعكسها وتظهر صاحبها مظهر الوفي لصديقه بأنه كانت تأتيه رسائل امرأة عبد الرحمن بن حسان فلا يجيبها إلى ما كانت تريد رعاية لحرمة الصديق . وليس من شك في أن هذه القصة خيال كانت تتفكه به الأنصار وقريش بعد أن هدأت نار الخصومة العملية بينهما ، وأن ما يرويه صاحب الأغاني عن أصل هذه المهاجاة بعيد كل البعد عن النساء : كان الصديقان يتصيّدان بأكلب لهما ، فقال القرشيّ لصاحبه : أزجر كلابك إنها قـَلـَطِيّة ٌ بُقـْعٌ ومثلُ كلابكم لم تصطدِ . فرد عليه حسان : من كان يأكل من فريسة صيده .... فالتمـرُ يغنينـا عـن المتصيّدِ إنـا أنــاسٌ ريِّـقـون وأمكم .... ككلابكـم في الولــغ والمتردّدِ حزناكُمُ للضّــبّ تحترشــونهُ .... والريـفُ يمنعكـم بكـل مهنّدِ وعظم الشر بين الصديقين منذ ذلك اليوم . ولعل عبد الرحمن بن حسان قد أحسن تصوير نفسية الأنصار حين قال : صار الذليـلُ عزيـزا والعزيـزُ به .... ذلّ وصـار فروع النـاس أذنابا إني لملتمـس حتى يبيـــن لكــم .... فيكـم متى كنتــمُ للناس أربابا وفارقوا طلعكم ثم انظروا وسلوا عنا .... وعنكــم قديـم العلــم أنسابا على أن الأمر تجاوز هذين الشاعرين ، فاستعان القرشي بشعراء من مضر وربيعة . ثم تجاوز الأمر الشعر والشعراء وانتهى إلى معاوية ، فأرسل إلى سعيد بن العاصي ، وكان واليه على المدينة ، يأمره بأن يضرب كلا من الشاعرين مائة سوط ، وكان سعيد عطوفا على الأنصار في أيام معاوية كما كان الزبير عطوفا عليهم أيام عمر ؛ وكانت بين سعيد وعبد الرحمن بن حسان مودّة فكره أن يضربه ، وكره أيضا أن يضرب القرشي فعطل أمر معاوية . غير أنه لم يلبث أن ترك ولاية المدينة لمروان بن الحكم الذي أسرع فتعصّب لأخيه وضرب عبد الرحمن بن حسان مائة سوط . هنا ذكر عبد الرحمن بن حسان أن للأنصار سفيرا في الشأم هو النعمان بن بشير فكتب إليه : ليت شعــري أغائب أنت بالشأ م خليـــــلي أم راقــــد نعمـــانُ أيّــة ً مــا تكـن فقــد يرجع الغا ئب يومـــا ويوقـــظ الوسـنانُ إن عمْــراً وعامـــراً أبوينـــــا وحرامـا قدمــا على العهـد كانوا إنهــم مانعــوك أم قلــــة الكتـّ ـابِ أم أنت عــــاتب غضبـانُ أم جفـــاء أم أعوزتـك القراطيـ س أم أمـــري بــــه عليك هوانُ يــوم أنبئــت أنّ ســـاقيَ رُضـّ ـت وأتتــكم بـــذلك الركبــانُ ثــم قالــوا إن ابن عمّك في بلـ ـوى أمــــورٍ أتى بهــــا الحدثانُ فنسيت الأرحام والـودّ والصحـ ـبة فيمــــا أتت بــــه الأزمـــانُ إنمـــا الرمــــحُ فاعلمـــنّ قنــاة ٌ أو كبعضِ العيــدانِ لولا السنانُ قالوا : فدخل النعمان بن بشير على معاوية ، فذكر له أن سعيدا عطّل أمره ، وأن مروان أنفذه في الأنصاري وحده ؛ قال معاوية : فتريد ماذا ؟ قال النعمان : أريد أن تعزم على مروان ليُمضين أمرك في الرجلين جميعاً . ويروى أن النعمان قال في ذلك هذه الأبيات : يابن أبي سفيــان مـا مثلـُنا .... جـــارَ عليــه ملك أو أمير أذكر بنـــا مقــدم أفراسنا .... بالحنـْـو إذا أنت إلينــا فقير واذكر غداة السّاعديّ الذي آثركم .... بالأمـــر فيهـــا بشير فاحذر عليهــم مثل بدر وقـد .... مرّ بكــم يـومٌ ببـدرٍ عسير إن ابــن حسّـــان لـه ثائر .... فاعطه الحـق تصـحّ الصدور ومـثـل أيام لـنا شـتتت ملكـــا لكــم أمرك فيهـا صغير أما تــــرى الأزد وأشياعها .... تجـولُ خـزرا كاظمات تزير يصـول حولي منهمُ معشر إن .... صلتُ صالوا وهم لي نصير يأبى لنـا الضيمُ فلا نـُعتـَلى عزٌ .... منيـــعٌ وعديــد كثيـر وعنصـرٌ في غزِّ جُرثومة عاديّـــة .... تنقــــلُ عنهــا الصخور وانتهى أمر معاوية إلى مروان ، فضرب أخاه خمسين سوطا ، واستعفى عبد الرحمن بن حسان في الباقي فعفا . ولكنه أخذ يذيع في المدينة أن مروان قد ضربه حدّ الحرّ مائة صوت وضرب أخاه حدّ العبد خمسين ، فشقـّت هذه المقالة على عبد الرحمن بن الحكم وأقبل على أخيه فطلب إليه أن يتم عليه المائة ففعل . واتصل الهجاء بين الرجلين . ولقد يستطيع الكاتب في التاريخ السياسي أن يضع كتابا خاصا ضخما في هذه العصبية بين قريش والأنصار ، وما كان لها من التأثير في حياة المسلمين أيام بني أمية ، لا نقول في المدينة ومكة ودمشق ، بل نقول في مصر وأفريقيا والأندلس . ويستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرا مستقلا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام ، وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية . هذا دون أن يتجاوز المؤرخ السياسي أو الأدبي الخصومة بين قريش والأنصار ، فكيف إذا تجاوزها إلى الخصومة بين القبائل الأخرى ! ذلك أن العصبية لم تكن مقصورة على أهل مكة والمدينة ، ولكنها تجاوزتهم إلى العرب كافة ، فتعصّبت العدنانية على اليمانية ؛ وتعصّبت مضر على بقية عدنان ؛ وتعصّبت ربيعة على مضر ؛ وانقسمت مضر نفسها فكانت فيها العصبية القيسيّة والتميمية والقرشية . وانقسمت ربيعة فكانت فيها عصبية تغـْلِب وعصبيّة بكر . وقل مثل ذلك في اليمن ؛ فقد كانت للأزد عصبيّتها ، ولحمْيَر عصبيّتها ، ولقضاعة عصبيّتها . وكانت كل هذه العصبيات تتشعّب وتتفرع وتمتد أطرافها وتتشكل بأشكال الظروف السياسية والإقليمية التي تحيط بها ؛ فلها شكل في الشأم ، وآخر في العراق ، وثالث في خراسان ، ورابع في الأندلس . وأنت تعلم حق العلم أن هذه العصبية هي التي أزالت سلطان بني أميّة ؛ لأنهم عدلوا عن سياسة النبي التي كانت تريد محو العصبيات ، وأرادوا أن يعتزوا بفريق من العرب على فريق . قوّوا العصبيّة ثم عجزوا عن ضبطها ، فأدالت منهم ، بل أدالت من العرب للفرس . وإذا كان هذا تأثير العصبيّة في الحياة السياسية وقد رأيت طرفا يسيرا من تأثيرها في الشعر والشعراء ، فأنت تستطيع أن تتصوّر هذه القبائل العربية في هذا الجهاد السياسي العنيف ، تحرص كل واحدة منها على أن يكون قديمها في الجاهلية خير قديم ، وعلى أن يكون مجدها في الجاهلية رفيعا مؤثلا بعيد العهد . وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر الجاهلي ، لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد ، وإنما كانت ترويه حفظا . فلما كان ما كان في الإسلام من حروب الردّة ثم الفتوح ثم الفتن ، قتل من الرواة والحفـّاظ خلقٌ كثير . ثم اطمأنت العرب في الأمصار أيام بني أميّة وراجعت شعرها ، فإذا أكثره قد ضاع ، وإذا أقلّه قد بقي . وهي بعد في حاجة إلى الشعر تقدّمه وقودا لهذه العصبية المضطرمة . فاستكثرت من الشعر وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال ونحلتها شعراءها القدماء . وليس هذا شيئا نفرضه نحن أو نستنبطه استنباطا ، وإنما هو شيء كان يعتقده القدماء أنفسهم . وقد حدّثنا به محمد بن سلاَم في كتابه "طبقات الشعراء" . وهو يحدّثنا بأكثر من هذا ؛ يحدّثنا بأن قريشا كانت أقل العرب شعراً في الجاهليّة ، فاضطرها ذلك إلى أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الإسلام . وابن سلاّم يحدثنا عن يونس بن حبيب أنه نقل عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : ما بقي لكم من شعر الجاهلية إلا أقلّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير . ولابن سلاّم مذهب من الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع ، لا باس بأن نلم به إلمامة قصيرة . فهو يرى أن طَرَفة بن العبد وعبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدّهم تقدّما . وهو يرى أن الرواة الصحيحين لم يحفظوا لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر . فهو يقول : إن لم يكن هذان الشاعران قد قالا إلا ما يحفظ لهما فهما لا يستحقان هذه الشهرة وهذا التقدّم ؛ وإذن فقد قالا شعرا كثيرا ولكنه ضاع ، ولم يبق منه إلا هذا القليل . وشق على الرواة أو على غير الرواة ألا يُروى لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر فأضافوا إليهما ما لم يقولا ، وحُمل عليهما كما يقول ابن سلاّم حمل كثير . ولكن ابن سلاّم لا يقف عند هذا الحد ، بل هو ينقد ما كان يرويه ابن اسحاق وغيره من أصحاب السِّيَر من الشعر يضيفونه إلى عادٍ وثمود وغيرهم ، ويؤكد أن هذا الشعر منحول مختلق . وأي دليل على ذلك أوضح من هذه النصوص القرآنية التي تثبت أن الله قد أباد عاداً وثمود ولم يبق منهم باقية ! وسنعرض بعد قليل لهذا النحو من شعر عاد وثمود وغير عاد وثمود . ولكننا إنما ذكرناه الآن لنبين كيف كان القدماء يتبيّنون كما نتبين ويحسّون كما نحس أن هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين أكثره منحول ، لأسباب منها السياسي ومنها غير السياسي . كان القدماء يتبيّنون هذا . ولكن مناهجهم في النقد كانت أضعف من مناهجنا ؛ فكانوا يبدؤون ثم يقصرون عن الغاية . ومن هنا زعم ابن سلاّم أنه يستطيع أن يروي لنا شيئا من أوّليّة الشعر العربي . فروى أبياتا تنسب لجذيمة الأبرش ، وأخرى تنسب لزهير بن جناب ، ونحو هذا . وسترى أننا نحن لا نستطيع أن نقبل هذا الشعر ، كما أن ابن سلاّم لم يستطع أن يقبل شعر عاد وثمود . ومهما يكن من شيء فإن هذا الفصل الطويل ينتهي بنا إلى نتيجة نعتقد أنها لا تقبل الشك ، وهي أن العصبيّة وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين . وقد رأيت أن القدماء قد سبقونا إلى هذه النتيجة . وأريد أن ترى أنهم قد شقوا بها شقاءً كثيرا . فابن سلاّم يحدّثنا بأن أهل العلم قادرون على أن يميزوا الشعر الذي ينتحله الرواة في سهولة ، ولكنهم يجدون مشقة وعسرا في تمييز الشعر الذي ينتحله العرب أنفسهم . ونحن لا نقف عند استخلاص هذه النتيجة وتسجيلها ، وإنما نستخلص منها قاعدة علمية وهي أن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يسمّى جاهليا أن يشك في صحّته كلما رأى شيئا من شأنه تقوية العصبية أو تأييد فريق من العرب على فريق . ويجب أن يشتد هذا الشك كلما كانت القبيلة أو العصبيّة التي يؤيدها هذا الشعر قبيلة أو عصبيّة قد لعبت - كما يقولون - دورا في الحياة السياسية للمسلمين . الدين وانتحال الشعر ولم تكن العواطف والمنافع الدينية أقل من العواطف والمنافع السياسية أثرا في تكلف الشعر وانتحاله وإضافته إلى الجاهليين . لا نقول في العصور المتأخرة وحدها . بل فيها وفي العصر الأموي أيضا . وربما ارتقى عصر الانتحال المتأثر بالدين إلى أيام الخلفاء الراشدين أيضا . ولو أن لدينا من سعة الوقت وفراغ البال ما يحتاج إليه هذا الموضوع للهونا وألهينا القارئ بنوع من البحث لا يخلو من فائدة علمية أدبية قيمة . وهو أن نضع تاريخا لهذا الانتحال المتأثر بالدين . فنحن نرى أنه تشكل أشكالا مختلفة دعت إليها الظروف المختلفة التي أحاطت بالحياة الدينية للعرب خاصة وللمسلمين عامة . فكان هذا الانتحال في بعض أطواره يقصد به إلى إثبات صحة النبوة وصدق النبي ؛ وكان هذا النوع موجها إلى عامة الناس . وأنت تستطيع أن تحمل على هذا كل ما يروى من هذا الشعر الذي قيل في الجاهلية ممهدا لبعثة النبي وكل ما يتصل به من هذه الأخبار والأساطير التي تروى لتقنع العامة بأن علماء العرب وكهّانهم وأحبار اليهود ورهبان النصارى كانوا ينتظرون بعثة نبي عربي يخرج من قريش أو من مكة . وفي سيرة ابن هشام وغيرها من كتب التاريخ والسير ضروب كثيرة من هذا النوع . وأنت تستطيع أن تحمل على هذا لونا آخر من الشعر المنتحل لم يضف إلى الجاهليين من عرب الإنس وإنما أضيف إلى الجاهليين من عرب الجن . فقد يظهر أن الأمة العربية لم تكن أمة من الناس الذين ينتسبون إلى آدم ليس غير ، وإنما كان بإزاء هذه الأمة الإنسية أمة أخرى من الجن كانت تحيا حياة الإنسية وتخضع لما تخضع له من المؤثرات . وتحس مثلما تحس ، وتتوقع مثل ما تتوقع . وكانت تقول الشعر ، وكان شعرها أجود من شعر الإنس ، بل كان شعراؤها هم الذين يلهمون شعراء الإنس فأنت تعرف قصة عبيد وهبيد . وأنت تعرف أن الأعراب والرواة قد لهوا بعد الإسلام بتسمية الشياطين الذين كانوا يلهمون الشعراء قبل النبوة وبعدها . وفي القرآن سورة تسمى "سورة الجن" أنبأت بأن الجن استمعوا للنبي وهو يتلو القرآن فلانت قلوبهم وآمنوا بالله وبرسوله ، وعادوا فأنذروا قومهم ودعوهم إلى الدين الجديد . وهذه الصورة تنبئ أيضا بأن الجن كانوا يصعدون في السماء يسترقون السمع . ثم يهبطون وقد ألموا إلماما يختلف قوة وضعفا بأسرار الغيب ؛ فلما قارب زمن النبوة حيل بينهم وبين استراق السمع فرُجموا بهذه الشهب وانقطعت أخبار السماء عن أهل الأرض حينا . فلم يكد القصاص والرواة يقرؤون هذه السورة وما يشبهها من الآيات التي فيها حديث عن الجن حتى ذهبوا في تأويلها كل مذهب واستغلوها استغلالا لا حد له ، وأنطقوا الجن بضروب من الشعر وفنون من السجع ، ووضعوا على النبي نفسه أحاديث لم يكن بدّ منها لتأويل آيات القرآن على النحو الذي يريدونه ويقصدون إليه . وأعجب من هذا أن السياسة نفسها قد اتخذت الجن أداة من أدواتها وأنطقتها بالشعر في العصر الإسلامي نفسه . فقد أشرنا في هذا الفصل السابق إلى ما كان من قتل سعد بن عبادة ، ذلك الأنصاريّ الذي أبى أن يذعن بالخلافة لقريش ، وقلنا أنهم تحدثوا أن الجن قتلته . وهم لم يكتفوا بهذا الحديث ، وإنما رووا شعرا قالته الجن تفتخر فيه بقتل سعد بن عبادة هذا : قد قتلنا سيد الخز رج سعــد بن عبادة ورمينــاهُ بسهميـ ـن فلم نخطئ فؤاده وكذلك قالت الجن شعرا رثت عمر بن الخطاب : أبعـــد قتيل بالمدينـة أظلمتْ له الأرض تهتز العضاهُ بأسوقِ جزى الله خيرا من إمـامٍ وباركت يد الله في ذلك الأديــم الممزقِ فمن يسع أو يركبْ جناحي نعامةٍ ليدرك مـا حاولت بالأمس يُسْبَقِ قضت أمورا ثم غادرت بعدها بوائقَ في أكمامها لــــم تـُفتقِ ومـا كنتُ أخشى أن تكون وفاته بكفيّ سبتني أزرق العين مُطرق والعجب أن أصحاب الرواية مقتنعون بأن هذا الكلام من شعر الجن . وهم يتحدثون في شيء من الانكار والسخرية بأن الناس قد أضافوا هذا الشعر إلى الشماخ بن ضرار . ولنعد إلى ما نحن فيه فقد أظهرناك على نحو من انتحال الشعر على الجن والإنس باسم الدين . والغرض من هذا الانتحال - فيما نرجح - إنما هو إرضاء حاجات العامة الذي يريدون المعجزة في كل شيء ، ولا يكرهون أن يقال لهم إن من دلائل صدق النبي في رسالته إنه كان منتظرا قبل أن يجيء بدهرٍ طويل ، تحدّثت بهذا الانتظار شياطين الجن وكهان الإنس وأحبار اليهود ورهبان النصارى . وكما أن القصاص المنتحلين قد اعتمدوا على الآيات الذي ذكرت فيها الجن ليخترعوا ما اخترعوا من شعر الجن وأخبارهم المتصلة بالدين ، فهم قد اعتمدوا على القرآن أيضا فيما رووا وانتحلوا من الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الأحبار والرهبان . فالقرآن يحدثنا بأن اليهود والنصارى يجدون النبي مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . وإذاً يجب أن نخترع القصص والأساطير وما يتصل بها من الشعر ليثبت أن المخلصين من الأحبار والرهبان كانوا يتوقعون بعثة النبي ويدعون الناس إلى الإيمان به حتى قبل أن يظِل الناس زمانه . ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين ، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش . فلأمرٍ ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم ، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف ، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي ، وأن يكون قصي صفوة قريش ، وقريش صفوة مضر ، ومضر صفوة عدنان ، وعدنان صفوة العرب ، والعرب صفوة الإنسانية كلها . وأخذ القصاص يجتهدون في تثبيت هذا النوع من التصفية والتنقية وما يتصل منه بأسرة النبي خاصة ، فيضيفون إلى عبدالله وعبدالمطلب وهاشم وعبدمناف وقصي من الأخبار ما يرفع شأنهم ويعلي مكانتهم ويثبت تفوقهم على قومهم خاصة وعلى العرب عامة . وأنت تعلم أن طبيعة القصص عند العرب تستتبع الشعر ، ولا سيما إذا كانت العامة هي التي تراد بهذا القصص . وهنا تتظاهر العواطف الدينية والعواطف السياسية على انتحال الشعر . فقد أرادت الظروف أن تكون الخلافة والملك في قريش رهط النبي ، وأن تختلف قريش حول هذا الملك ، فيستقر حينا في بني أمية وينتقل منهم إلى بني هاشم رهط النبي الأدنين . ويشتد التنافس بين أولئك وهؤلاء ويتخذ أولئك وهؤلاء القصص وسيلة من وسائل الجهاد السياسي . فأما في أيام بني أمية فيجتهد القصاص في إثبات ما كان لأمية من مجد في الجاهلية . وأما في أيام العباسيين فيجتهد القصاص في إثبات ما كان لبني هشام من مجد في الجاهلية . وتشتد الخصومة بين قصاص هذين الحزبين السياسيين ، وتكثر الروايات والأخبار والأشعار . ثم لا يقتصر الأمر على هذين الصنوين من بني عبد مناف ؛ فالارستقراطية القرشية كلها طموحة إلى المجد حريصة على أن يكون لها حظ منه في قديمها كما أن لها حظا منه في حديثها . وإذاً فالبطون القرشية على اختلافها تنتحل الأخبار والأشعار وتغري القصاص وغير القصاص بانتحالها . ولا أصل لهذا كله إلا أن قريشا رهط النبي من ناحية ، وأن الملك قد استقر فيها من ناحية أخرى . فانظر إلى تعاون العواطف الدينية والسياسية على انتحال الشعر أيام بني أمية وبني العباس . ولست في حاجة إلى أن أضرب لك الأمثال . فأنت تستطيع أن تنظر في سيرة ابن هشام وغيرها من كتب السير والتاريخ لترى من هذا كله الشيء الكثير . وإنما أضرب لك مثلا واحدا يوضح ما ذهبت إليه من أن بطون قريش كانت تحث على انتحال الشعر منافسة للأسرة المالكة ، أموية كانت أو هاشمية . وهذه القصة التي سأرويها تمس رهط بني مخزوم من قريش ، وهي تعطيك مثلا صادقا قويا لحرص قريش على انتحال الشعر لا تتحرج في ذلك ولا ترعى فيه صدقا ولا دينا . تحدث صاحب الأغاني بإسناد له عن عبد العزيز بن أبي نهشل قال : قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وجئته أطلب منه مغرما : يا خال هذه أربعة آلاف درهم وانشد هذه الأبيات الأربعة وقل سمعت حسّانا ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقلت أعوذ بالله أن أفتري على الله ورسوله ، ولكن إن شئت أن أقول سمعت عائشة تنشدها فعلت ؛ فقال : لا ، إلا أن تقول سمعت حسّانا ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ؛ فأبى عليّ وأبيتُ عليه ؛ فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليال . فأرسل إليّ فقال قل أبياتا تمدح بها هشاما – يعني ابن المغيرة – وبني أمية ؛ فقلت سمِّهم لي ؛ فسمّاهم ، وقال اجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك ؛ فقلت : ألا لله قـــــــــومٌ و لدت أختُ بني سهم هشامٌ وأبـــــــو عبدِ منافٍ مِدرهُ الخصم وذو الرمحين أشــباك على القـــوة والحزم فهـــذان يــــذودان وذا من كَثبٍ يرمي أســــودٌ تزهي الأقرا ن منـّاعـون للهضم وهم يوم عكاظٍ منعوا النـــاس مـــن الهزم وهم من ولدوا أشبوا بســر الحسَـــبِ الضخم فإن أحلف وبيت الله لا أحلف على إثــــــم لما مــن أخوة تبني قصــور الشــأم والرّدْم بأزكى من بني رَيطـــة أو أوزنَ في الحـــلم قال : ثم جئت فقلت : هذه قالها أبي ؛ فقال لا ، ولكن قل قالها ابن الزبعرى ؛ قال فهي إلى الآن منسوبة في كتب الناس إلى ابن الزبعرى . فانظر إلى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كيف أراد صاحبه على أن يكذب وينتحل الشعر على حسّان ؛ ثم لا يكفيه هذا الانتحال حتى يذيع صاحبه أنه سمع حسّانا ينشد هذا الشعر بين يدي النبي ، كل ذلك بأربعة آلاف درهم . ولكن صاحبنا كره أن يكذب على النبي بهذا المقدار ، واستباح أن يكذب على عائشة . وعبد الرحمن لا يرضيه إلا الكذب على النبي ؛ فاختصما . وكلاهما شديد الحاجة إلى صاحبه ، هذا يريد شعرا لشاعر معروف ، والآخر يريد المال ؛ فيتفقان آخر الأمر على أن ينحل الشعر عبد الله بن الزبعرى شاعر قريش . ومثل هذا كثير . نحو آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وهو هذا الذي يلجأ إليه القصاص ما يجدونه مكتوبا في القرآن من أخبار الأمم القديمة البائدة كعاد وثمود ومن إليهم . فالرواة يضيفون إليهم شعرا كثيرا . وقد كفانا ابن سلاّم نقده وتحليله حين جد في طبقات الشعراء في إثبات أن هذا الشعر وما يشبهه مما يضاف إلى تبّع وحِميَر موضوعٌ منتحل ، وضعه ابن اسحق وما إليه من أصحاب القصص . وابن اسحاق ومن إليه من أصحاب القصص لا يكتفون بالشعر يضيفونه إلى عادٍ وثمود وتبّع وحِميَر وإنما هم يضيفون الشعر إلى آدم نفسه ، فهم يزعمون أنه رثى هابيل حين قتله أخوه قابيل . ونظن أن من الإطالة والإملال أن نقف عند هذا النحو من السخف . ونحو آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر ، وذلك حين ظهرت الحياة العلمية عند العرب بعد أن اتصلت الأسباب بينهم وبين الأمم المغلوبة . فأرادوا هم أو الموالي أو أولئك وهؤلاء أن يدرسوا القرآن درسا لغويا ويثبتوا صحة ألفاظه ومعانيه . ولأمر ما شعروا بالحاجة إلى إثبات أن القرآن كتاب عربي مطابق في ألفاظه للغة العرب . فحرصوا على أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيل إلى الشك في عربيتها . وأنت توافقني في غير مشقة على أن من العسير كما قدمتُ في الكتاب الأول أن نطمئن إلى كل هذا الشعر الذي يستشهد به الرواة والمفسرون على ألفاظ القرآن ومعانيه . وقد عرفت رأينا في ذلك وفي قصة عبدالله بن عباس ونافع بن الأزرق ؛ فلا حاجة إلى أن نعيد القول فيه . وإنما نعيد شيئا واحدا هو أننا نعتقد أنه إذا كان هناك نص عربي لا تقبل لغته شكا ولا ريبا وهو لذلك أوثق مصدر للغة العربية فهو القرآن . وبنصوص القرآن وألفاظه يجب أن نستشهد على صحة ما يسمونه الشعر الجاهلي بدل أن نستشهد بهذا الشعر على نصوص القرآن . ولستُ أفهم كيف يمكن أن يتسرب الشك إلى عالم جاد في عربية القرآن واستقامة ألفاظه وأساليبه ونظمه على ما عرف العرب أيام النبي من لفظ ونظم وأسلوب ! وإنما هناك مسألة أخرى وهي أن العلماء وأصحاب التأويل من الموالي بنوع خاص لم يتفقوا في كثير من الأحيان على فهم القرآن وتأويل نصوصه ، فكانت بينهم خصومات في التأويل والتفسير . وعن هذه الخصومات نشأت خصومات أخرى بين الفقهاء وأصحاب التشريع . وهنا نوع جديد من تأثير الدين في انتحال الشعر . فهذه الخصومات بين العلماء كان لها تأثير غير قليل في مكانة العالِم وشهرته ورأي الناس فيه وثقة الأمراء والخلفاء بعلمه . ومن هنا كان هؤلاء العلماء حِراصا على أن يظهروا دائما مظهر المنتصرين في خصوماتهم الموفـّقين إلى الحق والصواب فيما يذهبون إليه من رأي . وأي شيء يتيح لهم هذا مثل الاستشهاد ؛ فاستشهدوا بشعر الجاهليين على كل شيء ، وأصبحت قراءة الكتب الأدبية واللغوية وكتب التفسير والمقالات تترك في نفسك أثرا قويا وصورة قريبة لهذا الشعر العربي الجاهلي ، حتى ليخيل إليك أن أحد هؤلاء العلماء على اختلاف ما كان ينظر فيه من فروع العلم لم يكن عليه إلا أن يمد يده إذا احتاج فيظفر بما شاء الله من كلام العرب قبل الإسلام ، كأن كلام العرب قبل الإسلام قد وعى كل شيء وأحصى كل شيء ، هذا وهم مجمعون على أن هؤلاء الجاهليين الذين قالوا في كل شيء كانوا جهلة غلاظا فظاظا . أفترى إلى هؤلاء الجهال الغلاظ يستشهد بجهلهم وغلظتهم على ما انتهت إليه الحضارة العباسية من علم ودقة فنية ! فالمعتزلة يثبتون مذاهبهم بشعر العرب الجاهليين . وغير المعتزلة من أصحاب المقالات ينقضون آراء المعتزلة معتمدين على شعر الجاهليين . وما أرى إلا أنك ضاحك مثلي أمام هذا الشطر الذي رواه بعض المعتزلة ليثبت أن كرسي الله الذي وسع السموات والأرض هو علمه ؛ وهذا الشطر هو قول الشاعر (المجهول طبعا) : "ولا بكرسي علم الله مخلوق" . وكذب أصحاب العلم على الجاهليين كثير لا سبيل إلى إحصائه أو استقصائه . فهو ليس مقصورا على رجال الدين وأصحاب التأويل والمقالات ورجال اللغة وأهل الأدب ، وإنما هو يجاوزهم إلى غيرهم من الذين قالوا في العلم مهما يكن الموضوع الذي تناولوه . لأمر ما كان البدع في العصر العباسي عند فريق من الناس أن يردّ كل شيء إلى العرب حتى الأشياء التي استحدثت أو جاء بها المغلوبون من الفرس والروم وغيرهم . وإذا كان الأمر كذلك فليس لانتحال الشعر على الجاهليين حد . وأنت إذا نظرت في كتاب الحيوان للجاحظ رأيت من هذا الانتحال ما يقنعك ويرضيك . ولكني لا أريد أن أبعد عما أنا فيه من تأثير العواطف والمنافع الدينية في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين . وقد رأينا إلى الآن فنونا من هذا التأثير ؛ ولكننا لم نصل بعد إلى أعظم هذه الفنون كلها خطرا وأبعدها أثرا وأشدها عبثا بعقول القدماء والمحدثين ، وهو هذا النوع الذي ظهر عندما استؤنف الجدال في الدين بين المسلمين وأصحاب الملل الأخرى ، ولا سيما اليهود والنصارى . هذا الجدل الذي قوى بين النبي وخصومه ، ثم هدأ بعد أن تم انتصار النبي على اليهود والوثنيين في بلاد العرب ، وانقطع أو كاد ينقطع أيام الخلفاء الراشدين؛ لأن الكلمة في أيام هؤلاء الخلفاء لم تكن للحجة ولا للسان ، وإنما كانت لهذا السيف الذي أزال سلطان الفرس واقتطع من دولة الروم الشأم وفلسطين ومصر وقسما من أفريقيا الشمالية . فلما انتهت هذه الفتوح واستقر العرب في الأمصار واتصلت الأسباب بينهم وبين المغلوبين من النصارى وغير النصارى استؤنف هذا الجدال وأخذ صورة أقرب إلى النضال منها إلى أي شيء آخر . وذهب المجادلون في هذا النوع من الخصومة مذاهب لا تخلو من غرابة نحب أن نشير إلى بعضها في شيء من الإيجاز . أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي ، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل . فليس غريبا أن نجد قبل الإسلام قوما يدينون بالإسلام أخذوه من هذه الكتب السماوية التي أوحيت قبل القرآن . والقرآن يحدثنا عن هذه الكتب ، فهو يذكر التوراة والإنجيل ويجادل فيهما اليهود والنصارى . وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئا آخر هو صحف إبراهيم . ويذكر غير دين اليهود والنصارى دينا آخر هو ملة إبراهيم ، هو هذه الحنيفية التي لم نستطع إلى الآن أن نتبين معناها الصحيح . وإذا كان اليهود قد استأثروا بدينهم وتأويله ، وكان النصارى قد استأثروا بدينهم وتأويله ، وكان القرآن قد وقف من أولئك وهؤلاء موقف من ينكر عليهم صحة ما يزعمون ، فطعن في صحة ما بين أيديهم من التوراة والإنجيل واتهمهم بالتحريف والتغيير ، ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويله ، فقد أخذ المسلمون يرددون الإسلام في خلاصته إلى دين إبراهيم هذا الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى . وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم . ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت إلى عبادة الأوثان . ولم يحتفظ بدين إبراهيم إلا أفراد قليلون يظهرون من حين لحين . هؤلاء الأفراد يتحدثون فنجد من أحاديثهم ما يشبه الإسلام . وتأويل ذلك يسير ؛ فهم أتباع إبراهيم ، ودين إبراهيم هو الإسلام . وتفسير هذا من الوجهة العلمية يسير أيضا ؛ فأحاديث هؤلاء الناس قد وضعت لهم وحملت عليهم حملا بعد الإسلام ، لا لشيء إلا ليثبت أن للإسلام في بلاد العرب قدمة وسابقة . وعلى هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الجاهليين والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن من الحديث شبه قوي أو ضعيف . وهنا نصل إلى مسألة عني بها الباحثون عن تاريخ القرآن من الفرنج والمستشرقين خاصة ، وهي تأثير المصادر العربية الخالصة في القرآن . فقد كان هؤلاء الباحثون يرون أن القرآن تأثر باليهودية والنصرانية ومذاهب أخرى بين بين كانت شائعة في البلاد العربية وما جاورها . ولكنهم رأوا أن يضيفوا إلى هذه المصادر مصدرا عربيا خالصا ؛ والتمسوا هذا المصدر من شعر العرب الجاهليين ، ولاسيما الذين كانوا يتمنعون منهم . وزعم الأستاذ (كليمان هوار) - في فصل طويل نشرته له المجلة الآسيوية سنة 1804 - إنه قد ظفر من ذلك بشيء قيم واستكشف مصدرا جديدا من مصادر القرآن ، هذا الشيء القيم وهذا المصدر الجديد هو شعر أمية بن أبي الصلت . وقد طال الأستاذ (هوار) في هذا البحث وقارن بين هذا الشعر الذين يُنسب إلى أمية بن أبي الصلت وبين آيات من القرآن . وانتهى من هذه المقارنة إلى نتيجتين : (الأولى) أن هذا الشعر الذي ينسب لأمية بن أبي الصلت صحيح : لأن هناك فروقا بين ما جاء فيه وما جاء في القرآن من تفصيل بعض القصص ، ولو كان منتحلا لكانت المطابقة تامة بينه وبين القرآن . وإذا كان هذا الشعر صحيحا ، فيجب في رأي الأستاذ (هوار) أن يكون النبي قد استعان به قليلا أو كثيرا في نظم القرآن . (الثانية) إن صحة هذا الشعر واستعانة النبي به في نظم القرآن قد حملتا المسلمين على محاربة شعر أمية بن أبي الصلت ومحوه ليستأثر القرآن بالجدة وليصح أن النبي قد انفرد بتلقي الوحي من السماء . وعلى هذا النحو استطاع الأستاذ (هوار) أو خيّل إليه أنه استطاع أن يثبت أن هناك شعرا جاهليا صحيحا ، وأن هذا الشعر الجاهلي قد كان له أثر في القرآن . مع أني من أشد الناس إعجابا بالأستاذ (هوار) وبطائفة من أصحابه المستشرقين وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان من النتائج العلمية القيمة في تاريخ الأدب العربي وبالمناهج التي يتخذونها للبحث ، فإني لا أستطيع أن أقرأ مثل هذا الفصل الذي أشرت إليه آنفا دون أن أعجب كيف يتورط العلماء أحيانا في مواقف لا صلة بينها وبين العلم . وليس يعنيني هنا أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أو لا يكون ، فأنا لا أؤرخ القرآن ، وأنا لا أذود عنه ولا أتعرض للوحي وما يتصل به ، ولا للصلة بين القرآن وما كان يتحدث به اليهود والنصارى . كل ذلك لا يعنيني الآن ، وإنما الذي يعنيني هو شعر أمية بن أبي الصلت وأمثاله من الشعراء . والغريب من أمر المستشرقين في هذا الموضوع وأمثاله أنهم يشكـّون في صحة السيرة نفسها ويتجاوز بعضهم الشك إلى الجحود ، فلا يرون في السيرة مصدرا تاريخيا صحيحا ، وإنما هي عندهم كما ينبغي أن تكون عند العلماء جميعا : طائفة من الأخبار والأحاديث تحتاج إلى التحقيق والبحث العلمي الدقيق ليمتاز صحيحها من منتحلها . هم يقفون هذا الموقف العلمي من السيرة ويغلون في هذا الموقف ؛ ولكنهم يقفون من أمية بن أبي الصلت وشعره موقف المستيقن المطمئن ؛ مع إن أخبار أمية ليست أدنى إلى الصدق ولا أبلغ في الصحة من أخبار السيرة . فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلى نحو من الأخبار دون النحو الآخر ؟ أيمكن أن يكون المستشرقون أنفسهم لم يبرءوا من هذا التعصب الذي يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات ؟ أما أنا فلستُ مستشرقا ولستُ رجلا من رجال الدين . وإنما أريد أن أقف من شعر أمية بن أبي الصلت نفس الموقف العلمي الذي وقفته من شعر الجاهليين جميعا . وحسبي أن شعر أمية بن أبي الصلت لم يصل إلينا إلا عن طريق الرواية والحفظ لا شك في صحته كما شككت في صحة شعر امرئ القيس والأعشى وزهير . وإن لم يكن لهم من النبي موقف أمية بن أبي الصلت . ثم إن هذا الموقف نفسه يحملني على أن أرتاب الارتياب كله في شعر أمية بن أبي الصلت ؛ فقد وقف أمية من النبي موقف خصومة : هجا أصحابه وأيد مخالفيه ورثى أهل بدر من المشركين . وكان هذا وحده يكفي لينهي عن رواية شعره ، وليضيع هذا الشعر كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هجى فيه النبي وأصحابه حين كانت الخصومة شديدة بينهم وبين مخالفيهم من العرب الوثنيين واليهود . وليس يمكن أن يكون من الحق في شيء أن النبي نهى عن رواية شعر أمية لينفرد بالعلم والوحي بأخبار الغيب . فما كان شعر أمية بن أبي الصلت إلا شعرا كغيره من الشعر لا يستطيع أن ينهض للقرآن كما لم يستطع غيره من الشعر أن ينهض للقرآن . وما كان علم أمية بن أبي الصلت بأمور الدين إلا كعلم أحبار اليهود ورهبان النصارى . وقد ثبت النبي لأولئك وهؤلاء واستطاع أن يغلبهم على عقول العرب بالحجة مرة وبالسيف مرة أخرى . فأمر النبي مع أمية بن أبي الصلت كأمره مع هؤلاء الشعراء الكثيرين الذين هجوا وناهضوا وألبوا عليه . ومن هنا تستطيع أن تفهم ما يروى من أن النبي أنشد شيئا من شعر أمية فيه دين وتحنـّف فقال : " آمن لسانه وكفر قلبه " . آمن لسانه لأنه كان يدعوا إلى مثل ما كان يدعوا إليه النبي ؛ وكفر قلبه لأنه كان يظاهر المشركين على صاحب هذا الدين الذي كان يدعوا إليه . فأمره كأمر هؤلاء اليهود الذين أيدوا النبي ووادعوه ، حتى إذا خافوه على سلطانهم السياسي والاقتصادي والديني ظاهروا عليه المشركين من قريش . ليس إذاً شعر أمية بن أبي الصلت بـِدْعا في شعر المتحنفين من العرب أو المتنصرين والمتهودين منهم . وليس يمكن أن يكون المسلمون قد تعمدوا محوه ؛ إلا ما كان منه هجاءً للنبي وأصحابه ونعياً على الإسلام ؛ فقد سلك المسلمون فيه مسلكهم في غيره من الشعر الذي أهمل حتى ضاع . ولكن في شعر أمية بن أبي الصلت أخباراً وردت في القرآن كأخبار ثمود وصالح والناقة والصّيْح . ويرى الأستاذ (هوار) أن ورود هذه الأخبار في شعر أمية بعض المخالفة لما جاء في القرآن دليل على صحة هذا الشعر من جهة ، وعلى أن النبي قد استقى من أخباره من جهة أخرى . ولستُ أدري قيمة هذا النحو من البحث . فمن الذي زعم أن ما جاء في القرآن من الأخبار كان كله مجهولا قبل أن يجيء به القرآن ؟ ومن الذي يستطيع أن ينكر أن كثيرا من القصص القرآني كان معروفا بعضه عند اليهود وبعضه عند النصارى وبعضه عند العرب أنفسهم ، وكان من اليسير أن يعرفه النبي ، كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبي من المتصلين بأهل الكتاب . ثم كان النبي وأمية متعاصرين . فلِم يكون النبي هو الذي أخذ عن أمية ولا يكون أمية هو الذي أخذ عن النبي ؟ ثم من الذي يستطيع أن يقول إن من ينتحل الشعر ليحاكي القرآن ملزم أن يلائم بين شعره وبين نصوص القرآن ؟ أليس المعقول أن يخالف بينهما ما استطاع ليخفي الانتحال ويوهم أن شعر صحيح لا تكلف فيه ولا تعمّل ؟ بلى ! ونحن نعتقد أن هذا الشعر الذي يضاف إلى أمية بن أبي الصلت وإلى غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبي أو جاءوا قبله إنما انتحل انتحالا . انتحله المسلمون ليثبتوا - كما قدمنا - أن للإسلام قِدَمه وسابقته في البلاد العربية . ومن هنا لا نستطيع أن نقبل ما يضاف إلى هؤلاء الشعراء والمتحنفين إلا مع شيء من الاحتياط والشك غير قليل . هذا شأن المسلمين . فأما غير المسلمين من أصحاب الديانات الأخرى فقد نظروا فإذا لهم في حياة الأمة العربية قبل الإسلام قديم . وفي الحق أن اليهود قد استعمروا جزءاً غير قليل من بلاد الحجاز في المدينة وحولها وعلى طريق الشام . وفي الحق أيضا أن اليهودية قد جاوزت الحجاز إلى اليمن . ويظهر أنها استقرت حيناً عند سراة اليمن وأشرافها . وأنها أثرت بوجه ما في الخصومة التي كانت بين أهل اليمن وبين الحبشة ، وهم نصارى . ثم في الحق أن اليهودية قد استتبعت حركة اضطهاد للنصارى في نجران ذكرها القرآن في سورة البروج كل هذا حق لا شك فيه . وكل هذا ظاهر في أخبار العرب وأساطيرهم ، وهو ظاهر في القرآن بنوع خاص ؛ فليس قليلا ما يمس اليهود من سور القرآن وآياته . وأنت تعلم ما كان بين النبي واليهود من خصومة انتهت بإجلاء اليهود عن بلاد العرب أيام عمر بن الخطاب . وكان اليهود قد تعربوا حقا ، وكان كثير من العرب قد تهوّدوا . وليس من شك عندي في أن الاختلاط بين اليهود وبين الأوس والخزرج قد أعد هاتين القبيلتين لقبول الدين الجديد وتأييد صاحبه . هذه حالة اليهود . فأما النصارى فقد انتشرت دياناتهم انتشارا قويا في بعض بلاد العرب فيما يلي الشام حيث كان الغسانيون الخاضعون لسلطان الروم ، وفيما يلي العراق حيث كان المناذرة الخاضعون لسلطان الفرس ، وفي نجران من بلاد اليمن التي كانت على اتصال بالحبش وهم نصارى . ويظهر أن قبائل من العرب البادين تنصرت قبل الإسلام بأزمات تختلف طولا وقصرا . فنحن نعلم مثلا أن تغلب كانت نصرانية وأنها أثارت مسألة من مسائل الفقه . فالقاعدة أنه لا يقبل من العربي إلا الإسلام أو السيف ؛ فأما الجزية فتقبل من غير العرب ولكن تغلب قبلت منها الجزية ، قبلها عمر فيما يقول الفقهاء . تغلغلت النصرانية إذاً كما تغلغلت اليهودية في بلاد العرب . وأكبر الظن أن الإسلام لو لم يظهر لانتهى الأمر بالعرب إلى اعتناق إحدى هاتين الديانتين . ولكن الأمة العربية كان لها مزاجها الخاص الذي لم يستقم لهذين الدينين والذي استتبع دينا أقل ما يوصف به أنه ملائم ملاءمة تامة لطبيعة الأمة العربية . مهما يكن من شيء ، فليس من المعقول أن ينتشر هذان الدينان في البلاد العربية دون أن يكون لهما أثر ظاهر في الشعر العربي قبل الإسلام . وقد رأيت أن العصبية العربية حملت العرب على أن ينتحلوا الشعر ويضيفوه إلى عشائرهم في الجاهلية بعد أن ضاع شعر هذه العشائر فالأمر كذلك غي اليهود والنصارى : تعصبوا لأسلافهم من الجاهليين وأبوا إلا أن يكون لهم شعر كشعر غيرهم من الوثنيين ، وأبوا إلا أن يكون لهم مجد وسؤدد كما كان لغيرهم مجد وسؤدد أيضا ، فانتحلوا كما انتحل غيرهم ، ونظموا شعرا أضافوه إلى السموءل بن عادياء وإلى عديّ بن زيد وغيرهما من شعراء اليهود والنصارى . والرواة القدماء أنفسهم يحسون شيئا من هذا فهم يجدون فيما ينسب إلى عديّ بن زيد من الشعر سهولة وليناً لا يلائمان العصر الجاهلي ، فيحاولون تعليل ذلك بالإقليم والاتصال بالفرس واصطناع الحياة الحضرية التي كان يصطنعها أهل الحيرة . ونحن نجد مثل هذه السهولة في شعر اليهود ، في شعر السموءل بنوع خاص . ولا نستطيع أن نعللها بمثل ما عُللت به في شعر عديّ . فقد كان السموءل - إن صحت الأخبار - يعيش عيشة خشنة أقرب إلى حياة السادة البادية منها إلى حياة أصحاب الحضر . ويحدثنا صاحب الأغاني بأن وُلد السموءل انتحلوا قصيدة قافية أضافوها إلى امرئ القيس وزعموا أنه مدح بها السموءل حين أودعه سلاحه في طريقه إلى قسطنطينية . ونرجح نحن أن وُلد السموءل هم الذين انتحلوا هذه القصيدة الرائية التي تضاف للأعشى والتي يقال أنه مدح بها شرحبيل بن السموءل في قصته المشهورة مع الكلبي . فأنت ترى أن للعواطف الدينية على اختلافها وتنوع أغراضها مثل ما للعواطف السياسية من التأثير في انتحال الشعر ولإضافته إلى الجاهليين . وإذا كان من الحق أن نحتاط في قبول الشعر الذي يظهر فيه تأثير ما للأهواء السياسية ، فمن الحق أيضا أن نحتاط في قبول الشعر الذي يظهر فيه تأثير ما للأهواء الدينية . وأكبر الظن أن الشعر الذي يسمى جاهليا مقسم بين السياسة والدين ، ذهبت هذه بشطر منه وذهب هذا بالشطر الآخر . ولكن أسباب الانتحال ليست مقصورة على السياسة والدين بل هي تجاوزتهما إلى أشياء أخرى . القصص وانتحال الشعر من هذه الأشياء شيء ليس دينا ولا سياسة ؛ ولكنه يتصل بالدين وبالسياسة اتصالا قويا ، نريد به القصص الذي أشرنا إليه غير مرة فيما قدمنا من القول . فالقصص في نفسه ليس من السياسة ولا من الدين ، وإنما هو فن من فنون الأدب العربي توسط بين آداب الخاصة والآداب الشعبية . وكان مرآة للون من ألوان الحياة النفسية عند المسلمين . وأزهر في عصر غير قصير من عصور الأدب العربي الراقية ، أزهر أيام بني أمية وصدرا من أيام بني العباس ، حتى إذا كثر التدوين وانتشرت الكتب واستطاع الناس أن يلهوا بالقراءة دون أن يتكلفوا الانتقال إلى مجالس القصاص ، ضعف أمر هذا الفن وأخذ يفقد صفته الأدبية الراقية شيئا فشيئا حتى ابتذل وانصرف عنه الناس . وهذا الفن الأدبي تناول الحياة العربية والإسلامية كلها من ناحية خيالية لم يقدرها الذين درسوا تاريخ الآداب العربية قدرها ، لا أكاد أستثني منهم إلا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ؛ فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلى القدماء ، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه " تاريخ آداب العرب " . نقول إن هذا الفن قد تناول الحياة العربية والإسلامية من ناحية خيالية خالصة . ونعتقد أن الذين يدرسون تاريخ الأدب العربي لو أنهم عُنوا بدرس هذا الفن عناية علمية صحيحة لوصلوا إلى نتائج قيمة ولغيروا رأيهم في تاريخ الأدب . فمهما تكن الأسباب التي دعت إلى نشأة فن القصص عند المسلمين ، فقد نشأ هذا الفن ؛ وكانت منزلته عند المسلمين هي بعينها منزلة الشعر القصصي عند قدماء اليونان . وكانت الصلة بينه وبين الجماعات هي بعينها الصلة بين الشعر القصصي اليوناني وجماعات اليونان القدماء . وليس من شك عندنا في أن هؤلاء القصاص من المسلمين قد تركوا آثارا قصصية لا تقل جمالا وروعة وحسن موقع في النفس عن "الإلياذة" و "الأوديسا" . وكل ما بين القصص الإسلامي واليوناني من الفرق هو أن الأول لم يكن شعرا كله وإنما كان نثرا يزينه الشعر من حين إلى حين بينما كان الثاني كله شعرا ، وأن الأول لم يكن يلقيه صاحبه على أنغام الأدوات الموسيقية بينما كان القاص اليوناني يعتمد على الأداة الموسيقية اعتمادا ما ، وأن الأول لم يجد من عناية المسلمين مثلما وجد الثاني من عناية اليونان ؛ فبينما كان اليونان يقدّسون "الإلياذة" و "الأوديسا" ويعنون بجمعهما وترتيبهما وروايتهما وإذاعتهما عناية المسلمين بالقرآن ، كان المسلمون مشغولين بالقرآن وعلومه عن قصصهم هذا . وفي الحق أن الأدب العربي لم يدرس في العصور الإسلامية الأولى لنفسه وإنما درس من حيث هو وسيلة إلى تفسير القرآن وتأويله واستنباط الأحكام منه ومن الحديث . وكان هذا كله أدنى إلى الجد وألصق به من هذا القصص الذي كان يمضي مع الخيال حيث أراد ويتقرّب من نفس الشعب ويمثل له أهواءه وشهواته ومُثله العليا . فليس غريبا أن ينصرف عن القصص أصحاب الجدّ من المسلمين . كان قصّاص المسلمين يتحدّثون إلى الناس من مساجد الأمصار فيذكرون لهم قديم العرب والعجم وما يتـّصل بالنبوات ، ويمضون معهم في تفسير القرآن والحديث ورواية السيرة والمغازي والفتوح إلى حيث يستطيع الخيال أن يذهب بهم لا إلى حيث يلزمهم العلم والصدق أن يقفوا . وكان الناس كلِفين بهؤلاء القصاص مشغوفين بما يلقون إليهم من حديث . وما أسرع ما فطن الخلفاء والأمراء لقيمة هذه الأداة الجديدة من الوجهة السياسية والدينية ، فاصطنعوها وسيطروا عليها واستغلوها استغلالا شديدا ، وأصبح القصص أداة سياسية كالشعر . وليس من شك في أن العناية بدرس هذا الفن ستنتهي إلى مثل ما انتهت إليه العناية بدرس الشعر من أن الأحزاب السياسية على اختلافها كانت تصطنع القصاص ينشرون لها الدعوة في طبقات الشعب على اختلافها ، كما كانت تصطنع الشعراء يناضلون عنها ويذودون عن آرائها وزعمائها . ونحن نعرف من سيرة ابن اسحاق أنه كان هاشمي النزعة والهوى ، وأنه لقي في ذلك عناءً من الأمويين في آخر عهدهم بالسلطان ، وأنه ظفر بحسن المنزلة عند العباسيين في أوّل عهدهم بالملك . والتعمق في درس حياة القصاص الذين كانوا يقصّون في البصرة والكوفة ومكة والمدينة وغيرها من الأمصار يظهرنا من غير شك على الصِّلات التي كانت تصل بين هؤلاء القصّاص وبين الأحزاب السياسية . غير أن القصص لم يتأثر بالسياسة وحدها ، وإنما تأثر بالدين أيضا . وقد رأيت في الفصل الماضي مُثـُلا توضح هذا التأثر . وتأثر القصص بشيء آخر غير السياسة والدين وهو روح الشعب الذي كان يُتحدث إليه . ومن هنا عني عناية شديدة بالأساطير والمعجزات وغرائب الأمور . ومن هنا اجتـُهد في تفسير هذه الأساطير وإكمال الناقص منها وتوضيح الغامض . فنحن نستطيع أن نقول إن هذا القصص كان يستمد قوته وثروته من مصادر مختلفة ، أهمها أربعة : (الأول) مصدر عربي هو القرآن وما كان يتصل به من الأحاديث والروايات ، وما كانت تتحدث به العرب في الأمصار من أخبارها وأساطيرها وما كانت تروي من شعر ، وما كان يتحدث به الرواة من سيرة النبي والخلفاء وغزواتهم وفتوحهم . (الثاني) مصدر يهودي نصراني ، وهو ما كان يأخذه القصّاص عن أهل الكتاب من أخبار الأنبياء والأحبار والرهبان وما يتصل بذلك ، وليس ينبغي أن ننسى هنا تأثير أولئك اليهود والنصارى الذين أسلموا وأخذوا يضعون الأحاديث ويدسونها مخلصين أو غير مخلصين . (الثالث) مصدر فارسي ، وهو هذا الذي كان يستقيه القصّاص في العراق خاصة من الفرس مما يتصل بأخبارهم وأساطيرهم وأخبار الهند وأساطيرها . ثم المصدر الرابع مصدر مختلط هو هذا الذي يمثل نفسية العامة غير العربية من أهل العراق والجزيرة والشام من الأنباط والسريان ومن إليهم من هؤلاء الأخلاط الذين كانوا منبثين في هذه الأقطار والذين لم تكن لهم سيادة ولا وجود سياسي ظاهر . كل هذه المصادر كانت تمد القصّاص . فكنتَ ترى في قصصهم ألوانا من القول وفنونا من الحديث قد لا تعجب العالِم المحقق لاضطرابها وظهور سلطان الخيال عليها ؛ ولكن لها جمالا أدبيا فنيا رائعا يعجب به من يستطيع أن يقدر التئام هذه الأهواء المختلفة التي تتصل بشعوب مختلفة وأجيال متباينة من الناس . ويعجب به بنوع خاص الذين يحاولون أن يتبينوا فيه نفسية الشعوب والأجيال التي كانت تلهم هؤلاء القصّاص . مهما يكن من شيء ، فإن هذه المصادر كلها كانت تطلق ألسنة القصّاص بما كانوا يتحدثون به إلى سامعيهم في الأمصار . وأنت تعلم أن القصص العربي لا قيمة له ولا خطر في نفس سامعيه إذا لم يزنه الشعر من حين إلى حين . ويكفي أن تنظر في "ألف ليلة وليلة" وفي قصة عنترة وما يشبهها ، فسترى أن هذه القصص لا تستطيع أن تستغني عن الشعر ، وأن كل موقف قيم أو ذي خطر من مواقف هذه القصص لا يستقيم لكاتبه وسامعه إلا إذا أضيف إليه قدر من الشعر قليل أو كثير يكون عماداً له ودعامة . وإذن فقد كان القصّاص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلى مقادير لا حدّ لها من الشعر يزينون بها قصصهم ويدعمون بها مواقفهم المختلفة فيه . وهم قد وجدوا من هذا الشعر ما كانوا يشتهون وفوق ما كانوا يشتهون . وأكاد لا أشك في أن هؤلاء القصّاص لم يكونوا يستقلون بقصصهم ولا بما يحتاجون إليه من الشعر في هذا القصص ، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم الأحاديث والأخبار ويلفقونها ، وآخرين ينظمون لهم القصائد وينسقونها ، ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض ؛ فقد يحدثنا ابن سلاّم أن ابن إسحاق كان يعتذر عما كان يروى من غثاء الشعر فيقول : لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله . فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله . فمن هؤلاء القوم ؟ . أليس من الحق لنا أن نتصوّر أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب ، وإنما كان كل واحد منهم يشرف على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين ومن النظام والمنسقين ، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم وأذاعوه بين الناس . وكان مثلهم في هذا مثل القاص الفرنسي المعروف (ألكسندر دوما) الكبير . وأنت تدهش إذا رأيت هذه الكثرة الشعرية التي تنبث فيما بقي لنا من آثار القصّاص . فلديك في سيرة ابن هشام وحدها دواوين من الشعر نظم بعضها حول غزوة بدر ، وبعضها حول غزوة أحد ، وبعضها في غير هاتين الغزوتين من المواقف والوقائع ، وأضيف بعضه إلى حمزة ، وبعضه إلى عليّ ، وبعضه إلى حسّان ، وبعضه إلى كعب بن مالك ، وأضيف بعضه إلى نفر من شعراء قريش ، وإلى نفر من قريش لم يكونوا شعراء قط ، وإلى نفر آخرين من غير قريش . وليش غير سيرة ابن هشام أقل منها حظا في هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين مرة وإلى المخضرمين مرة أخرى . وكثرة هذا الشعر الذي صدر عن المصانع الشعرية في الأمصار المختلفة أيام بني أمية وبني العباس كانت سببا في نشأة رأي يظهر أن القدماء كانوا مقتنعين به ، وأن الكثرة المطلقة من المحدثين ليست أقل به اقتناعا ، وهو أن الأمة العربية كلها شاعرة ، وأن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته ، يكفي أن يصرف همه إلى القول فإذا هو ينساق إليه انسياقا . كان القدماء يعتقدون هذا وما يزال المحدثون يرونه . وعذر أولئك وهؤلاء أن لديهم كثرة فاحشة من الشعر تضاف إلى ناس منهم المعروف ومنهم غير المعروف ، منهم الحضري ومنهم البدوي . فأما العلماء والمحققون منهم فقد استطاعوا أن ينفوا من هذا الشعر مقدارا قليلا أو كثيرا لم يستطيعوا أن يقبلوه ولا أن يطمئنوا إليه . ولكنهم بعد الحذف والنفي والنقد والتمحيص نظروا فإذا لديهم مقادير ضخمة تضاف إلى ناس منهم المعروف ومنهم المجهول ، ومنهم الحضري ومنهم البدوي . فأي شيء أيسر من أن يعتقدوا أن العربي شاعر بفطرته ، وأنه يكفي أن يكون الرجل عربيا ليقول الشعر متى شاء وكيف شاء . ولكن رأيا كهذا لا يلائم طبيعة الأشياء . فنحن نستطيع أن نؤمن بأن الأمم تتفاوت حظوظها من الشعر ، فبعضها أشعر من بعض ، وبعضها أكثر شعراء من بعضها الآخر . ولكن لا نستطيع أن نفهم أن يكون جيل من الناس شاعرا كله ، أو أن تكون أمة من الأمم شاعرة كلها رجالا ونساءً وشبانا وشيبا وولدانا أيضا . ولدينا نصوص قديمة تدلنا على أن العرب لم يكونوا جميعا شعراء . فكثيرا ما حاول العربي قول الشعر فلم يوفق إلى شيء . وقد طلب إلى النبي في بعض المواقف التي احتاج المسلمون فيها إلى الشعر أن يأذن لعلي في أن يقول شعرا يرد به على شعراء قريش فأبى النبي أن يأذن له ، لأنه لم يكن من ذلك في شيء ، وأذن لحسّان . وما نظن أننا في حاجة إلى أن نقيم الأدلة نبسط البراهين على أن العرب لم يكونوا كلهم شعراء . وإنما سبيلنا أن نوضح أن كثرة هذا الشعر هي التي خيّلت إلى القدماء والمحدثين أن لفظ العربي مرادف للفظ الشعر . فإذا أضفت إلى ما قدمنا أنك تجد كثيرا من الشعر يضاف إلى قائل غير معروف بل غير مسمى ، فتراهم يقولن مرة قال الشاعر ، وأخرى قال الأول ، وثالثة قال الآخر ، ورابعة قال رجل من بني فلان ، وخامسة قال أعرابي وهلم جرا – نقول إذا لاحظت هذا كله عذرت القدماء والمحدثين إذا اعتقدوا أن العرب كلهم شعراء . والحق أن العرب كانوا كغيرهم من الأمم ذات الفصاحة واللسن والأذهان القوية يكثر فيهم الشعر دون أن يعم كافتهم ، وأن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى غير قائل أو إلى قائل مجهول إنما هو شعر مصنوع موضوع انتحل انتحالا بسبب من هذه الأسباب التي نحن بإزائها ومنها القصص . كثرة هذا الشعر الذي احتاج إليه القصّاص لتزدان به قصصهم من ناحية وليسيغها القراء والسامعون من ناحية أخرى خدعت فريقا من العلماء ، فقبلوها على أنها صدرت من العرب حقا . وقد فطن بعض العلماء إلى ما في هذا الشعر من تكلف حينا ومن سخف وإسفاف حينا آخر ، وفطن إلى أن بعض هذا الشعر يستحيل أن يكون قد صدر عن الذين يُنسب إليهم . ومن هؤلاء العلماء محمد بن سلاّم الذي أنكر – كما رأيت – ما يضيفه ابن إسحاق إلى عاد وثمود وحِمْير وتبّع ، وأنكر كثير مما رواه ابن إسحاق في السيرة من شعر الرجال والنساء سواء منهم من عُرف بالشعر ومن لم يقل شعرا قط . وآخرون غير ابن سلاّم أنكروا ما روى ابن إسحاق وأصحابه القصّاصون ؛ نذكر منهم ابن هشام الذي يروي لنا في السيرة ما كان يرويه ابن إسحاق ، حتى إذا فرغ من رواية القصيدة . قال : وأكثر أهل العلم بالشعر أو بعض أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة أو ينكرها لمن تضاف إليه . ولكن هؤلاء العلماء الذين فطنوا لأثر القصص في انتحال الشعر خـُدعوا أيضا ؛ فلم يكن صناع الشعر جميعا ضِعافا ولا محمّقين ، بل كان منهم ذوي البصيرة النافذة والفؤاد الذكي والطبع اللطيف ، فكان يجيد الشعر ويحسن انتحاله وتكلفه ، وكان فطِنا يجتهد في إخفاء صنعته ويوفق من ذلك إلى الشيء الكثير . وابن سلاّم نفسه يحدثنا بأنه إذا سهل على العلماء النقاد أن يعرفوا ما تكلفه الضعفاء من المنتحلين ، فمن العسير عليهم أن يميزوا ما كان يتكلفه العرب أنفسهم ، وقد رأيت أن العرب أنفسهم كانوا يتكلفون ويضعون ويكذبون ، فيسرفون في هذا كله . ولعل من أوضح الأمثلة لانخداع ابن سلاّم عن هذا الشعر المنتحل هذه الطائفة التي رواها على أنها أقدم ما قالته العرب من الشعر الصحيح ، والتي يضاف بعضها إلى جذيمة الأبرش ، وبعضها إلى زهير بن جناب ، وبعضها إلى العنبر بن تميم ، وبعضها إلى مالك وسعد ابني زيد مناة بن تميم ، وبعضها إلى أعصر بن سعد بن قيس عيْلان . وكل هذا الشعر إذا نظرت فيه سخيف سقيم ظاهر التكلف بيّن الصنعة . واضح جداً أن راويا من الرواة أو قاصا من القصّاص تكلفه ليفسر مثلا من الأمثال أو أسطورة من الأساطير أو لفظا غريبا أو ليلذ القارئ أو السامع ليس غير . ولنضرب لذلك مثلا هذين البيتين الذين يضافان إلى أعصر بن سعد بن قيس عيْلان ، وهما : قالت عميرة ما لرأسك بعد ما نفد الزمان أتى بلون منكر أعميز إنّ أباك شيّب رأسه كـَرُّ الليالي واختلاف الأعصر قال ابن سلاّم وغيره من العلماء والرواة : إن هذا الرجل إنما سمّي "أعصر" لهذا البيت الأخير . قال ابن سلاّم : وبعض الناس يسميه "يعصر" وليس بشيء . وابن سلاّم نفسه يحدثنا أن معدّاً كان يعيش في العصر الذي كان يعيش فيه موسى بن عمران ، أي قبل المسيح بقرون عدّة أي قبل الإسلام بأكثر من عشرة قرون ، فإذا لاحظنا أن "أعصر" هذا هو ابن سعد بن قيس عيْلان بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ ، رأينا أنه إن عاش فقد عاش في زمن متقدم جدا أي قبل الإسلام بعشرة قرون على أقل تقدير . أفتظن أن هذين البيتين اللذين قرأتهما آنفا يمكن أن يكونا قد قيلا قبل الإسلام بألف سنة ! ونحن لا نعرف اللغة العربية قبل الإسلام بثلاثة قرون أو أربعة قرون ، ونحن نجد مشقة غير قليلة في فهم الشعر العربي الصحيح الذي قيل أيام النبي أو بعد النبي ، ولا نجد شيئا من العسر في فهم هذا الكلام الذي إن صح رأي ابن سلاّم فقد قيل قبل النبي بأكثر من عشرة قرون . أليس واضحا جليا أن هذين البيتين إنما قيلا في الإسلام ليفسرا اسم هذا الرجل الذي هو في حقيقة الأمر من أشخاص الأساطير لا نعرف أوُجد في حقيقة الأمر أم لم يوجد . وقل مثل هذا فيما يضيفه ابن سلاّم إلى مالك وسعد ابنيْ زيد مناة بن تميم . فنحن لا نعرف مَنْ سعدٌ ومَنْ مالك ومَنْ زيد مناة ومَنْ تميم . وأكبر الظن عندنا أنهم أشخاص أساطير لم يوجدوا قط . ولكن رأي الرواة والقصاص مثلا تستعمله العرب وهو : "ما هكذا تورد يا سعد الإبل" .. وهم في حاجة إلى تفسير الأمثال ؛ والشعوب نفسها في حاجة إلى تفسير الأمثال أيضا . ومن هنا اخترعت هذه القصة التي نطق فيها سعد ومالك بما يضاف إليهما من الرجز . وقل مثل هذا فيما يضاف للعنبر بن تميم وهو : قد رابني من دلوِيَ اضطرابها والنأي في بهراء واغترابها إلاّ تجيء ملأى يجيء قِرابها فالأمر عندنا لا يتجاوز تفسير هذا البيت الأخير الذي كان يجري مجرى المثل فيما يظهر . وقل مثل هذا في هذا الشعر الذي يضاف إلى جذيمة الأبرش ، وفي كل ما يتصل بجذيمة وصاحبته الزّباء وابن اخته عمرو بن عديّ ووزيره قـَصير . فليس لهذا كله إلا أصل واحد هو تفسير طائفة من الأمثال ذكرت فيها أسماء هؤلاء الناس كلهم أو بعضهم كقولهم "لا يطاع لقصير أمر" . وقولهم : "لأمرٍ ما جدع قصيرٌ أنفه" ، وقولهم : "شب عمرو على الطوق" . أو ذكر فيها ما يتصل بهؤلاء الناس في هذه القصص التي كانت شائعة عند هؤلاء الأخلاط من سكان العراق والجزيرة والشأم وما يتصل بها من بوادي العرب ، كفرس جذيمة التي كانت تسمى "العصا" والبرج الذي بناه قصير على العصا بعد أن نفقت وكان يسمّى "برج العصا" ، ودم جذيمة الذي جمعته الزّباء في طست من الذهب ، وجـِمال عمرو بن عديّ التي احتال قصير في إدخالها تدْمر وعليها الرجال في الغرائر . وتستطيع أن تذهب هذا المذهب من الفهم والتفسير في كل هذه الحكايات والأساطير التي تتصل بالأسماء والأمثال والأمكنة وما إليها وما ينشد فيها من الشعر . ولكن القدماء لم يذهبوا هذا المذهب ؛ وإنما قبلوا هذه الأخبار والأشعار على علاتها ورووها على أنها صحيحة لأنهم سمعوها من رواة كانوا يعتقدون أنهم ثقات مصححون . ومن هنا روى ابن سلاّم وغيره أبياتا لجذيمة على أنها من أقدم الشعر العربي وهي التي تبتدئ بهذا البيت : ربما أوفيتُ في علمٍ ترفعنْ ثوبي شمالاتُ وهناك لون من ألوان القصص كان الناس يتحدثون به ويميلون إليه ميلا شديدا ويرون فيه الأكاذيب والأعاجيب وهو أخبار المعمّرين الذين مدّت لهم الحياة إلى أبعد مما ألف الناس . وقد رويت حول هؤلاء المعمّرين أخبار وأشعار قبلها العلماء الثقات في القرن الثالث للهجرة كأبي حاتم السجستاني وابن سلاّم نفسه ، وهو يروي لنا في كتاب الطبقات هذا الشعر المتكلف السخيف الذي يضاف إلى أحد هؤلاء المعمّرين وهو المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد الذي بقي بقاءً طويلا حتى قال : ولقد سئمت من الحياة وطولها وازددت من عدد السنين مئيــنا مائة أتت من بعدها مئتان لي وازددت من عدد الشهور سنينا هل ما بقي إلا كما قد فاتنا يــومٌ يكـــرُّ وليلة ٌ تحــدونا ويروي لنا ابن سلاّم شعرا آخر ليس أقل من هذا الشعر سخفا ولا تكلفا ولا انتحالا يضيفه إلى دُوَيْد بن زيد بن نهد حين حضره الموت : اليـــومَ يبنى لدُوَيْد بيته لو كان للدهر بلىً أبليته أو كان قربي واحداً كفيته يا رُبَّ نهْبٍ صالحٍ حويته ورُبَّ غيْلٍ حسن لويته ومِعصمٍ مخضّبٍ ثنـيـته فأنت ترى أن ابن سلاّم على ما أظهر من الشك فيما كان يروي ابن إسحاق من شعر عاد وثمود وتبّع وحِمْير ، قد انخدع عما كان يرويه ابن إسحاق وغير ابن إسحاق من القصّاص من الشعر يضيفونه إلى القدماء من حاضرة العرب وباديتهم . والرواة أشد انخداعا حين يتصل الأمر بالبادية اتصالا شديدا ، وذلك في هذه الأخبار التي يسمونها "أيام العرب" أو "أيام الناس" . فهم سمعوا بعض هذه الأخبار من الأعراب ثم رأوها تقص مفصلة مطوّلة فقبلوا ما كان يروى منها على أنه جدّ من الأمر ، ورووه وفسّروه وفسّروا به الشعر واستخلصوا منه تاريخ العرب ؛ مع أن الأمر فيه لا يتجاوز ما قدّمناه . فليست هذه الأخبار إلا المظهر القصصي لهذه الحياة العربية القديمة ، ذكره العرب بعد أن استقروا في الأمصار فزادوا فيه ونمّوه وزينوه بالشعر ؛ كما ذكر اليونان قديمهم فأنشأوا فيه "الإلياذة" و "الأوديسا" وغيرهما من قصائد الشعر القصصي التي لم يكن يكد يبلغها الإحصاء . فحرب البسوس وحرب داحس والغبراء وحرب الفساد وهذه "الأيام" الكثيرة التي وضعت فيها الكتب ونظم فيها الشعر ليست في حقيقة الأمر – إن استقامة نظريتنا – إلا توسيعا وتنمية لأساطير وذكريات كان العرب يتحدّثون بها بعد الإسلام . ومن هنا نستطيع أن نقول مطمئنين إن مؤرّخ الآداب العربية خليق أن يقف موقف الشك – إن لم يقف موقف الإنكار الصريح – أمام هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ، والذي هو في حقيقة الأمر تفسير أو تزيين لقصة من القصص أو توضيح لاسم من الأسماء أو شرح لمثل من الأمثال . كل ما يُروى عن عاد وثمود وطسْم وجَديس وجُرهُم والعماليق موضوع لا أصل له . وكل ما يُروى عن تبّع وحِمْير وشعراء اليمن في العصور القديمة ، وأخبار الكهان ، وما يتصل بسيْل العرم وتفرّق العرب بعده موضوع لا أصل له . وكل ما يُروى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها وما يتصل بذلك من الشعر خليق أن يكون موضوعا . والكثرة المطلقة منه موضوعة من غير شك . وكل ما يُروى من هذه الأخبار والأشعار التي تتصل بما كان بين بين العرب والأمم الأجنبية من العلاقات قبل الإسلام كعلاقاتهم بالفرس واليهود والحبشة خليق أن يكون موضوعا . وكثرته المطلقة موضوعة من غير شك . ولسنا نذكر شعر آدم وما يشبهه فنحن لم نكتب هذا الكتاب هازلين ولا لاعبين . الشعوبية وانتحال الشعـر ت والشعوبية ما رأيك فيهم وفيما يمكنِ أن يكون لهم من الأثر القوي في إنتحال الشعر والأخبار وإضافتها إلى الجاهليين ؟ أما نحن فنعتقد أن هؤلاء الشعوبية قد انتحلوا أخباراً وأشعاراً كثيرة وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين . ولم يقف أمرهم عند إنتحال الأخبار والأشعار ، بل هم قد أضطروا خصومهم ومناظريهم إلى الانتحال والإسراف فيه . وأنت تعلم أن أصل هذه الفرقة إنما هو هذا الحقد الذي أضمره الفرس المغلوبون للعرب الغالبين ، وأنت تعلم أن هذه الخصومة قد أخذت مظاهر مختلفة منذ تم الفتح للعرب ، وأحدثت آثاراً مختلفة بعيدة في حياة المسلمين الدينية والسياسية والأدبية . ولكنا لا نريد أن نتجاوز في هذا الفصل تأثير الشعوبية في الحياة الأدبية وحدها وفي انتحال الشعر على الجاهليين بنوع خاص . لم يكد ينتصف القرن الأوّل للهجرة حتى كان فريق من سبي الفرس قد أستغرب وأتقن العربية وأستوطن الأقطار العربية الخالصة ، وأخذ يكون له فيها نسل وذرية ، وأخذ هذا الشباب الفارسي الناشئ يتكلم العربية كما يتكلمها العرب أنفسهم . وما هي إلا أن أخذ هذا الشباب يحاول نظم الشعر العربي على نحو ما كان ينظمه شعراء العرب . ثم لم يقف أمرهم عند نظم الشعر بل تجاوزه إلى أن شاركوا العرب في أغراضهم الشعرية السياسية . فكان من هؤلاء الموالي شعراء يتعصّبون للأحزاب العربية السياسية ويناضلون عنها . وهذا الموقف السياسي الذي وقفه الموالي الأحزاب يسّر الأمر عليهم تيسيراً شديداً . فقد كان أحدهم لا يكاد تأييده لحزب من هذه الأحزاب حتى يفرح به هذا الحزب ويعطف عليه ويجزل له الصِّلات ويذهب في تشجيعه كل مذهب ، على نحو ما تفعل الأحزاب السياسية الآن بالصحف التي تقف منها مواقف التأييد ، تقبل عليها وتمنحها المعونة لا تبالي في ذلك بشيء ، لأنها لا تريد إلا نشر الدعوة ، ولأنها لا تريد إلا الفوز . ومن إبتغى الفوز وحده كان خليقا ألا يحقق في اختيار الوسائل وتدبرالعواقب . وكذلك كانت تفعل الأحزاب العربية أيام بني أمية . كان هذا المولى يعلن تأييده للأمويين في قصيدة من الشعر فما أسرع ما يضمه الأمويون إليهم لا يعنيهم أكان مخلصاً لهم أو مبتغياً للحظوة والزلفى . وكذلك كان يفعل حزب آل الزبير وحزب الهاشميين . وكذلك كانت الخصومة بين الأحزاب العربية للمغلوبين الموتورين من الموالي أن يتدخّلوا في السياسة العربية وأن يهجوا أشراف قريش وقرابة النبي . كان بني أمية يشجعون أبا العباس الأعمى ، وكان آل الزبير يشجعون إسماعيل بن يسار ، وكان هذان الشاعران يستبيحان لأنفسهما هجو أشراف قريش خاصة والعرب عامة في سبيل التأييد لآل مروان وآل حرب وآل الزبير ولم يكن هؤلاء الموالي مخلصين للعرب حقاً ، إنما كانوا يستغلّون هذه الخصومة السياسية بين الأحزاب ليعيشوا من جهة وليخرجوا من حياة الرق أو حياة الولاء إلى حياة تشبه حياة الأحرار والسادة من جهة أخرى ، ثم ليشفوا ما في صدورهم من غل وينّفسوا عن أنفسهم ما كانوا يضمرون من ضغينة من جهة ثالثة . ولعل إسماعيل بن يسار أظهر مثل هذه الطائفة من الشعراء الموالي . الذين كانوا يبغضون العرب ويزدرونهم ويستغلون ما بينهم من الخصومات السياسية لحاجاتهم ولذاتهم وأهوائهم . قالوا : كان إسماعيل بن يسار زبيري الهوى ، فلما ظفر آل مروان بآل الزبير أصبح إسماعيل مروانياً وقبله بنو أمية ، فأستأذن ذات يوم على الوليد بن عبدالملك فأخّره ساعة حتى إذا أذن له دخل عليه يبكي ، فلما سأله عن بكائه هذا قال : أخرتني وأنت تعلم مروانيتي ومروانية أبي ؛ فأخذ الوليد يهوّن عليه ويعتذر إليه وهو لا يزداد إلا إغراقاً في البكاء ، حتى وصله الوليد فأحسن صلته ، فلما خرج تبعه بعض من حضر فسأله عن هذه . المروانية التي إدعاها : وما هي ومتى كانت ؟ فأجاب : إن هذه المروانية هي بغضنا لآل مروان وهي التي حملت أباه يساراً وهو يموت على أن يتقرّب إلى الله بلعن مروان بن الحكم ، وهي التي تحمل أمه على أن تلعن آل مروان مكان ما تتقرّب به من التسبيح . ولكن آل مروان كانوا في حاجة إلى إصطناع هؤلاء الشعراء يذودون عنهم ويناضلون بني هاشم خاصة ؛ فقد علمت منزلة بني هاشم في نفوس الموالي والفرس . والرواة يحدّثوننا بأن حب بني أمية لشاعرهم أبي العباس الأعمى لم يكن له حدّ ؛ فقد كانت صلات بني أمية ترسل إليه في مكة . وحج عبدالملك مرة فدخل عليه هذا الشاعر وأنشده شعرا هجا به أبن الزبير ، فخلف عبدالملك على من في المجلس من قرابته ومن قريش ليكسونّه كل واحد منهم ؛ قالوا فألقيت عليه الحلل والثياب حتى كادت تخفيه ، ونهض فجلس عليها بقية مجلسه مع عبدالملك . ولم تكن سيرة الهاشميين مع أنصارهم من الموالي أقل من سيرة الأمويين والزبيريين . وكانت النتيجة لهذا كله أن استباح هؤلاء الموالي لأنفسهم هجو العرب أوّلا ثم ذكر قديمهم والافتخار بالفرس ثانيا . وهجاء العرب أيام بني أمية ؛ ولكنك تجد من ذلك طرفاً مجزئاً مغنياً في الأغاني وغيره من كتب الأدب . أما العصر العباسي فيكفي أن تقرأ هذه القصيدة التي قالها أبو نواس يهجو فيها العرب وقريشا ، والتي يقال إن الرشيد أطال حبسه فيها . وهم يحدّثوننا أن الجرأة بلغت بإسماعيل بن يسار أن أنشد فخره بالفرس بين يدي هشام بن عبدالملك ؛ فغضب عليه الخليفة وأمر به فألقي في بركة كانت بين يديه ولم يخرج إلا وقد أشرف على الموت . نسوق هذا كله لنعطيك صورة من حقد الفرس على العرب وما كان له من أثر في الحياة الأدبية لهؤلاء الشعراء . وقد وصلنا إلى ما كنا نريد من تأثير هذه الشعوبية في انتحال الشعر ، فيكفي أن يحاول الشاعر من الموالي الإفتخار على العرب ليفكر في أن يثبت أن العرب أنفسهم كانوا قبل أن يتيح لهم الإسلام هذا التغلب يعترفون بفضل الفرس وتقدّمهم ، ويقولون في ذلك الشعر يتقّربون به إليهم ويبتغون به المثوبة عندهم ، ولا سيما إذا كانت الحوادث التاريخية والأساطير تعين على ذلك وتدني منه . ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الفرس قد سيطروا قبل الإسلام على العراق وأخضعوا لسلطانهم من كان يسكن حضره وباديته من العرب ! ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن الفرس قد أرسلوا جيشاً أحتل اليمن وأخرج منه الحبشة ! ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أنه قد كانت بين الفرس والعرب وقائع ، وأن ملوك الحيرة كانوا أتباعاً للفرس يوفدون إليهم من حين إلى حين أشراف البادية العربية ؟ وإذا كان هذا كله حقا فلم لا يستغله الموالي ؟ ولم لا يعتزون به على العرب المتغلبين الذين يزدرونهم ويتخذونهم رقيقا وخدما ؟ الحق أن الموالي لم يقّصروا في هذا ، فهم أنطقوا العرب بكثير من نثر الكلام وشعره ، فيه مدح للفرس وثناء عليهم وتقرّب منهم . وهم زعموا لنا الأعشى زار كسرى ومدحه وظفر بجوائزه . وهم أضافوا عديّ بن زيد ولقيط يَعْمُر وغيرهما من إياد والعباد كثيراً من الشعر فيه الإشادة بملوك الفرس وسلطانهم وجيوشهم . وهم أنطقوا شاعراً من شعراء الطائف بأبيات رواها الثقات من الرواة على أنها صحيحة لا شك فيها ، وهي أبيات تضاف إلى أبي الصلت بن ربيعة ، وهو أبو أمية بن أبي الصلت المعروف . وقد يكون من الخير أن نروي هذه الأبيات وهي : لله ردّهُم من عصبـة خرجــوا ما إن ترى لهم في النـاس أمثالا بيضـاً مرزابةً غُـراً حجاحـة أُسدا ترّبب في الغَيْيضـات أشبالا لا يرمَضُون إذا حرّت مغافـرهم ولا ترى منهـمُ في الطعـن مَيَّالا مًنْ مثلُ كسرى وسابور الجنود له أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا فاشرب هنيئا عليك التاجُ مرتفعــا في رأس غُمْدانَ داراً منك مْحِلالا واحتطم بالمسك إذا شالت نعامتهم وأسبل اليوم في بُرديـك إسبــالا تلك المكارم لا قَعْبان من لبـنٍ شيبـاَ بمــاء فعــادا بعدُ أبـوالا والشعر في مدح سيف بن ذي يزن . وقد زاد ابن قتيبة في أوّله هذه الأبيات وهي أبلغ في الدلالة على ما نريد أن ندل عليه وهي : ولن يطلب الوترأمثال ابن ذي يزَنٍ لجج في البحر للأعداء أحـوالا أتى هِرَقْــلَ وقـد شـالت نَعامتـه فلم يجـد عنده القولَ الذي قالا ثم أنتحى نحو كسـرى بعـد تاسعةٍ من السنيـن ، لقـد أبعدتَ إيغالا حتى أتى ببني الأحــرار يحملهـم إنك عمري لقـد أسرعتَ قلقالا فأنظر إليه كيف قدّم الفرس على الروم في أوّل الشعر وعلى العرب في سائره ! ولو أن العرب غلبوا الروم بعد الإسلام وأزالوا سلطانهم كما أزالوا سلطان الفرس وأخضعوهم لمثل ما أخضعوا له الفرس لكان للروم مع العرب شأن يشبه شأن الفرس معهم . ولكن العرب لم يقوّضوا سلطان الروم وإنما أقتطعوا طائفة من أقاليمهم وظلت دولتهم قائمة . ومن الخير أن نروى أبيتاً قالها إسماعيل بن يسار في الفخر بالفرس ، فسترى بينها وبين الشعر الذي يضاف إلى أبي الصلت ما يحمل على شيء من الشك والريبة . قال : إني وجدّك ما عُودي بـــذي خَوَرٍ عند الحِفَاظ ولا حَوْضي بمهدوم أصلي كريمُ ومجــدي لا يُقاس به ولي لســانُ كحدّ السيف مسموم أحمي به مجـــد أقـوام ذوي حسب من كل قـرم بتاج الملك معموم حجاحج ســــادة بُلْــج مرازبـة جرد عِتـاق مساميـح مطاعيم مَنْ مثلُ كسرى وسابور الجنود معَاً والهرمـزان لفخرٍ أو لتعظيـــم أُسد الكتّائب يوم الرَّوع إن زحفـــوا وهم أذلُّوا ملوك التـرك والروم يمشون في حلـــق المــاذي سابغـةً مشي الضراغمة الأُسد اللهاميم هنـاك إن تســـألي تُنْبـى لنــا جُرْثومةً قَهَرت عِزّ الجراثيــم على هذا النحو من انتحال الموالي للشعر والأخبار يضيفونها إلى العرب ذكراً لمآثر الفرس ، وما كان لهم من سلطان ومجد في الجاهلية . كان العرب مضطرين إلى أن يجيبوا بلون من الانتحال يشبه هذا اللون ، فيه تغليب للعرب على الفرس ، وفيه إثبات لأن ملك الفرس في الجاهلية وتسلطهم على العرب لم يكن من شأنه أن يذل هؤلاء أو أن يقّدم عليهم أولئك . ومن هنا مواقف هذه الوفود التي تتحدّث أمام كسرى مجامد العرب وعزّتها ومنعتها وإبائها للضيم . ومن هنا هذه المواقف التي تضاف إلى ملوك الحيرة والتي تظهر هؤلاء الملوك أحياناً عصاة مناهضين للملك الأعظم . ثم من هنا هذه الأيام والوقائع التي كانت للعرب على الفرس والتي تحدّث النبيّ عن بعضها وهو يوم ذي قار . فأنت ترى أن الشعوبية في مظهرها السياسي الأول قد حملت الفرس على أنتحال الأشعار والأخبار وأكرهت العرب على أن يلقوا الأنتحال بمثله . على أن هذه الشعوبية لم تلبث أن أستحالت بعد سقوط الأمويين وقيام سلطان الفرس على يد العباسيين إلى خلاف له صورة عليمة أدبية أقرب إلى البحث والجدل في أنواع العلم منها إلى ما كان معروفاً من الخصومة السياسية بين الغالب والمغلوب . وكان هذا النحو من الشعوبية أخصب من النوع السابق وأبلغ في حمل العرب والفرس على الانتحال والإسراف فيه . ولعلك تلاحظ أن الكثرة المطلقة من العلماء الذين أنصرفوا إلى الأدب واللغة والكلام والفلسفة كانوا من العجم الموالي ، وكانوا يستظلون بسلطان الوزراء والمشيرين من الفرس أيضاً ؛ وكانت غايتهم قد أستحالت من إثبات سابقة الفرس في الملك والسلطان إلى ترويج هذا السلطان الذي كسبوه أيام بني العباس وإقامة الأدلة الناهضة على أن الأمر قد ردّ إلى أهله وعلى أن هؤلاء العرب الذين حيل بينهم وبين السيادة الفعلية ليسوا ولم يكونوا أهلا لهذه السيادة . ومن هنا كان هؤلاء العلماء والمناظرون أصحاب أزدراء ونعى عليهم وغضٍّ من أقدارهم . فأما أبو عُبّيْدة مَعْمَر بن المُثَنىَّ الذي يرجع العرب إليه فيما يرون من لغة وأدب ، فقد كان أشدّ الناس بغضا للعرب وأزدراءً لهم ؛ وهو الذي وضع كتابا لا نعرف الآن إلا إسمه وهو " مثالب العرب " . وأما غير أبي عبيدة من علماء الموالي ومتكلميهم وفلاسفتهم فقد كانوا يمضون في أزدراء العرب إلى غير حدّ : ينالونهم في حروبهم ، ينالونهم في شعرهم ، ينالونهم في خطابتهم ، وينالونهم في دينهم أيضاً. فليست الزندقة إلا مظهراً من مظاهر الشعوبية ؛ وليس تفضيل النار على الطين وإبليس على آدم إلا مظهراً من مظاهر الشعوبية الفارسيّة التي كانت تفضّل المجوسية على الإسلام . وأنت تجد في " البيان والتبين " كلاما كثيراً تستبين منه إلى أيّ حدّ كان الفرس يعجبون بآثار الأمم الأعجمية ويقدّمونها على آثار العرب ، فهم يعجبون بخطب الفرس وسياستهم ، وعلم الهند وحكمتها ، ومنطق اليونان وفلسفتهم ؛ وهم ينكرون على العرب أن يكون لهم شيء يقارب هذا . والجاحظ ينفق لكل هذه المفاخر الأعجمية وأن يأتوا بخير منها . ولعل أصدق مثال لهذه الخصومة العنيفة بين علماء العرب والموالي : هذا الكتاب الذي كتبه الجاحظ في البيان والتبين وهو "كتاب العصـا". وأصل هذا الكتاب كما تعلم أن الشعوبية كانوا ينكرون على العرب الخطابة ، وينكرون على خطباء العرب ما كانوا يصطنعون أثناء خطابتهم من هيئة وشكل وما كانوا يتخذون من أداة ، وكانوا يعيبون على العرب إتخاذ العصا والمخصرة وهم يخطبون . فكتب الجاحظ كتاب العصا ليثبت فيه أن العرب أخطب من العجم ، وأن أتخاذ الخطيب العربي للعصا لا يغضّ من فنه الخطابي . أليست العصا محمودة في القرآن والسنـة وفي التوراة وفي أحاديث القدماء ؟ ومن هنا مضى الجاحظ في تعداد فضائل العصا حتى أنفق في ذلك سفراً ضخماً . والذي يعنينا من هذا كله هو أن نلاحظ أن الجاحظ وأمثاله من الذين كانوا يعنون بالردّ على الشعوبية ، ومهما يكن علمهم ومهما تكن روايتهم لم يستطيعوا أن يعصموا أنفسهم من هذا الأنتحال الذي كانوا يضطرون إليه إضطراراً ليسكتوا خصومهم من الشعوبية . فليس من اليسير أن نصدق أن كل ما يرويه الجاحظ من الأشعار والأخبار حول العصا والمخصرة ويضيفه إلى الجاهليين صحيح . ونحن نعلم حق العلم أن الخصومة حين تشتدّ بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب . كانت الشعوبية ينتحلون من الشعر ما فيه ذود عن العرب ورفع أقدارهم ونوع آخر من الانتحال دعت إليه الشعوبية ، تجده بنوع خاص في كتاب الحيوان للجاحظ وما يشبهه من كتب العلم التي ينحوبها أصحابها نحو الأدب . ذلك أن الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى أن يزعموا أن الأدب العربي القديم لا يخلو أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدّثة . فإذا عرضوا لشيء مما في هذه العلوم الأجنبية فلا بد أن يثبتوا أن العرب قد عرفوه أو ألموا به أو كادوا يعرفونه ويلمون به . ومن هنا لا تكاد تجد شيئاً من هذه الأنواع الحيوانية التي عرض لها الجاحظ في كتاب الحيوان إلا وقد قالت العرب شيئاً قليلاً أو كثيراً طويلاً أو قصيراً ، واضحاً أو غامضاً . يجب أن يكون للعرب قول في كل شيء وسابقة في كل شيء ، هم مضطرون إلى ذلك إضطراراً ليثبتوا ما يفقدون من السلطان السياسي ، وبمقدار ما ترفع هذه الأمم المغلوبة رءوسها . وأنا استطيع أن أمضي في تفصيل هذه الآثار المختلفة التي تركتها الشعوبية في الأدب العربي وفي الأنتحال بنوع خاص ؛ ولكني لم أكتب هذا الكتاب إلا لألمّ إلماماً بكل هذه الأسباب التي تحمل على الشك في قيمة ما يضاف إلى الجاهليين من الشعر . وأحسبني قد ألمت بالشعوبية وتأثيرها في ذلك إلماماً كافياً . الرواة وانتحال الشعر فإذا فرغنا من هذه الأسباب العامة التي كانت تحمل الأنتحال والتي تتصل بظروف الحياة السياسية والدينية والفنية للمسلمين فلن نفرغ من كل شيء ، بل نحن مضطرون إلى أن نقف وقفات قصيرة عند طائفة أخرى من الأسباب ، ليست من العموم والاطراد بمنزلة الأسباب المتقدّمة . ولكنها ليست أقل منها تأثيراً في حياة الأدب العربيّ القديم ، وحثاًّ على تحميل الجاهليين ما لم يقولوا من الشعر والنثر . أريد بها هذه الأسباب التي تتصل بأشخاص أولئك الذين نقلوا إلينا أدب العرب ودوّنوه . وهؤلاء الأشخاص الرواة . وهم بين اثنتين : إما أن يكونوا من العرب ، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب . وإما أن يكونوا من الموالي ، فهم متأثرون بما كان يتأثر به الموالي من تلك الأسباب العامة . وهم على تأثرهم بهذه الأسباب العامة متأثرون بأشياء أخرى هي التي أريد أن أقف عندها وقفات قصيرة كما قلت . ولعل أهمّ هذه المؤثرات التي عبثت بالأدب العربيّ وجعلت حظه من الهزل عظيماً : مجون الرواة وإسرافهم في اللهو والعبث وإنصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق إلى ما يأباه وتنكره الأخلاق . ولعلى لا أحتاج بعد الذي كتبته مفصلاً في الجزء الأوّل من "حديث الأربعاء" إلى أن أطيل في وصف ما كان فيه هؤلاء الناس من اللهو والمجون . ولست أذكر هنا إلا اثنتين إذا ذكرتهما فقد ذكرت الرواية كلها والرواة جميعاً : فأما أحدهما فحَمَّاد الراوية . وأما الآخر فخَلَف الأحمر . \ كان حماد الراوية زعيم أهل الكوفة في الرواية والحفظ . وكان خلف الأحمر زعيم أهل البصرة في الرواية والحفظ أيضاً . وكان كلا الرجلين مسرفاً على نفسه ليس له حظ من دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار . كان كلا الرجلين سكيراً فاسقاً مستهتراً بالخمر والفسق . وكان كلا الرجلين صاحب شك ودعابة ومجون . فأما حماد فقد كان صديقاً لحمّاد عجْرد وحمّاد الزبرقان ومُطِيع ابن إيَاس . وكلهم أسرف فيما لا يليق بالرجل الكريم الوقور . وأما خلف فكان صديقاً لوالبة بن الحُبَاب وأستاذاً لأبى نُوّاس . وكان هؤلاء الناس جميعاً في أمصار العراق الثلاثة مظهر الدعابة والخلاعة ؛ ليس منهم إلا من أتهم في دينه ورمي بالزندقة ، يتفق على ذلك الناس جميعاً : لا يصفهم أحد بخير ، ولا يزعم لهم أحد صلاحا في دين أو دنيا . وأهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية حمّاد ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب . وأهل البصرة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية خلف ، عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب أيضاً . وأهل الكوفة والبصرة مجمعون على تجريح الرجلين في دينهما وخُلُقهما ومروءتهما . وهم مجمعون على أنهما لم يكونا يحفظان الشعر ويحسنان روايته ليس غير ، وإنما كانا شاعرين مجيدين يصلان من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطيع أحد أن يميز بين ما يرويان وما ينتحلان . فأما حماد فيحدّثنا عنه رواية من خيرة الرواة الكوفة هو المُفَضَّل الضّبّيّ أنه قد أفسد الشعر إفساداً لا يصلح بعده أبداً ؛ فلما سئل عن سبب ذلك ألحنُ أم خطأ ؟ قال : ليته كان كذلك ، فإن أهل العلم يردّون من أخطأ إلى الصواب ، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعاينتهم ، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق ، فختلط أشعار القدماء ، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد ، وأين ذلك ؟ ويحدّثنا محمد بن سلاّم أنه دخل على بِلاَل بن أبى بُرْدة بن أبي موسى الأشعري ، فقال له بلال : ما أطرفتني شيئاً ؛ فغدا عليه حماد فأنشده قصيدة للحطيئة في مدح أبي موسى ؛ قال بلال : ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعرف ذلك ، وأنا أروي شعر الحطيئة ! ولكن دعها تذهب في الناس ؛ وقد تركها حماد فذهبت في الناس وهي في ديوان الحطيئة . والرواة انفسهم يختلفون ، فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقاً . وكان يونس بن حبيب يقول : العجب لمن يروي عن حمّاد ، كان يكسر ويلحن ويكذب . وثبت كذب حماد في الرواية للمهدي ؛ فأمر حاجبه فأعان في الناس أنه يبطل رواية حماد . وفي الحق أن حمادا كان يسرف في الرواية والتكثر منها . وأخباره في ذلك لا يكاد يصدّقها أحد ، فلم يكن يسال عن شيء إلا عرفه . وقد زعم للوليد بن يزيد أنه يستطيع أن يروي على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة لمن لم يعرفهم من الشعراء . قالوا وأمتحنه الوليد حتى ضجر فوكل به من أتم إمتحانه ثم أجازه . وأما خلف فكـلام الناس في كذبه كثير . وأبن سلام ينبئناً بأنه كان أفرس الناس بيت الشعر . ويتحدّثون أنه وضع لأهل الكوفة ما شاء الله أن يضع لهم ، ثم نسك في آخر أيامه فأنبأ أهل الكوفة بما كان قد وضع لهم من الشعر ؛ فأبوا تصديقه . وأعترف هو للأصمعي بأنه وضع غير قصيدة . ويزعمون أنه وضع لاميّة العرب على الشَّنْفَرَى ، ولاميّة أخرى على تأبَّطَ شراًّ رويت في الحماسة . وهناك رواية كوفيّ لم يكن أقل حظا من صاحبيه هذين في الكذب والانتحال . كان يجمع شعر القبائل حتى إذا جمع شعر قبيلة كتب مصحفاً بخطه ووضعه في مسجد الكوفة . ويقول خصومه : إنه كان ثقة لولا إسرافه في شرب الخمر ، وهو أبو عمرو الشيباني . ويقولون : إنه جمع شعر سبعين قبيلة . وأكبر الظن أنه كان يأجر نفسه للقبائل يجمع واحدة منها شعراً يضيفه إلى شعرائها . وليس هذا غريباً في تاريخ الأدب ، فقد كان مثله كثيراً في تاريخ الأدب اليوناني والروماني . وإذا فسدت مروءة الرواة كما فسدت مروءة حماد وخلف وأبى عمرو الشيباني ، وإذا أحاطت بهم ظروف مختلفة تحملهم على الكذب والانتحال ككسب المال والتقرّب إلى الأشراف والأمراء والظهور على الخصوم والمنافسين ونكاية العرب ــــ نقول : إذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف ، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا من شعر القدماء . والعجب أن الرواة لم تفسد مروءتهم ولم يُعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية قد كذبوا أيضاً وانتحلوا . فأبو عمرو بن العَلاَء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتاً : وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا ويعترف الأصمعي بشيء يشبه ذلك . ويقول اللاحقي إن سيبويـه سأله عن إعمال العرب " فَعِلاَ " ، فوضع له هذا البيت : حَذِرُ أمورا لا تَضِيرُ وآمنُ ما ليس ينجيـه من الأقــدار ومثل هذا كثير . وهناك طائفة من الرواة غير هؤلاء ليس من شك في أنهم كانوا يتخذون الانتحال في الشعر واللغة وسيلة من وسائل الكسب . وكانوا يفعلون ذلك في شيء من السخرية والعبث ، نريد بهم هؤلاء الأعراب الذين كان يرتحل إليهم في البادية رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب . فليس من شك عند من يعرف أخلاق الأعراب في أن هؤلاء الناس حين رأوا إلحاح أهل الأمصار عليهم في طلب الشعر والغريب وعنايتهم بما كانوا يلقون إليهم منهما ، قدّروا بضاعتهم وأستكثروا منها . ثم لم يلبثوا أن أحسوا أزدياد حرص الأمصار على هذه البضاعة ، فحدّوا في تجارتهم وأبوا أن يظلوا في باديتهم ينتظرون رواة الأمصار . ولم لا يتولون هم إصدار بضاعتهم بأنفسهم؟ ولم لا يهبطون إلى الأمصار يحملون الشعر والغريب والنوادر إلى الرواة فيريحونهم من الرحلة ومشاق السفر ونفقاته ، ويحدثون التنافس بينهم ، ويفيدون من ذلك ما لم يكونوا يفيدون حين لم يكن يقتحم الصحارى إليهم إلا رجل كالأصمعي أو أبي عمرو بن العلاء؟ وكذلك فعلوا : إنحدروا إلى الأمصار في العراق خاصة وكثر أزدحام الرواة حولهم فنَفَقت بضاعتهم ، وأنت تعلم أن نَفاق البضاعة أدعى إلى الإنتاج ؛ فأخذ هؤلاء الأعراب يكذبون وأسرفوا في الكذب ، حتى أحس الرواة أنفسهم ذلك . فالأصمعيّ يحدثنا عن أحد هؤلاء الأعراب ، وأسمه أبو ضمضم ، أنه أنشد لمائة شاعر أو ثمانين شاعرا كلهم يسمى عمرا ؛ قال الأصمعي : فعددت أنا وخلف الأحمر فلم نقدر على ثلاثين . ويحدّثنا أبن سلاّم عن أبي عُبَيْدة أن داود بن متمم بن نويرة ورد البصرة فيما يقدم له الأعراب ، فأخذ أبو عبيدة يسأله عن شعر أبيه وكفاه حاجته ؛ فلما فرغ داود من رواية شعر أبيه وكره أن تنقطع عناية أبي عبيدة به أخذ يضع على أبيه ما لم يقل ، وعرف ذلك أبو عبيدة . ونظن أننا قد بلغنا ما كنا نريد من إحصاء الأسباب المختلفة التي حملت على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين ، والتي تضطرنا نحن في هذا العصر إلى أن نقف موقف الشك والأحتياط أمام هذا الشعر . كل شيء في حياة المسلمين في القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى انتحال الشعر وتلفيقه سواء في ذلك الحياة الصالحة حياة الأتقياء والبررة ، والحياة السيئة حياة الفساق وأصحاب المجون . فإذا كان الأمر على هذا النحو فهل تظن أن من الحزم والفطنة أن نقبل ما يقول القدماء في غير نقد ولا تحقيق ؟ وقد قدّمنا أن هذا الكذب والانتحال في الأدب والتاريخ لم يكونا مقصورين على العرب ، وإنما هما حظ شائع في الآداب القديمة كلها . فخير لنا أن نجتهد في تعرّف ما يمكن أن تصح إضافته إلى الجاهليين من الشعر . وسبيل ذلك أن ندرس الشعر نفسه في ألفاظه ومعانيه بعد أن درسنا ما يحيط به من الظروف . قصص وتاريخ نظن أن أنصار القديم لا يطمعون منا في أن نغير لهم حقائق الأشياء أو أن نسمي هذه الحقائق بغير أسمائها ، لنبلغ رضاهم ونتجنب سخطهم ومهما نكن حِراصا على أن يرضوا ومهما نكن شديدي الكره لسخطهم فنحن على رضا الحق أحرص ، وللعبث بالحق والعلم أشد كرها . ولن نستطيع أن نسمي حقاً ما ليس بالحق ، وتاريخاً ما ليس بالتاريخ . ولن نستطيع أن نعترف بأن ما يروي من سيرة هؤلاء الشعراء الجاهليين وما يضاف إليهم من الشعر تاريخ يمكن الإطمئنان إليه أو الثقة به ؛ وإنما كثرة هذا كله قصص وأساطير لا تفيد يقينا ولا ترجيحاً ، وإنما تبعث في النفوس ظنوناً وأوهاماً . وسبيل الباحث المحقق أن يستعرضها في عناية وأناة وبراءة من الأهواء والأغراض ، فيدرسها محللاً ناقداً مستقصياً في النقد والتحليل . فإن إنتهى من درسه هذا إلى حق أو شيء يشبه بكل ما ينبغي أن يحتفظ به من الشك الذي قد يحمله على أن يغير رأيه ويستأنف بحثه ونظره من جديد . ذلك أن أخبار الجاهليين وأشعارهم لم تصل إلينا من طريق تاريخية صحيحه ، وإنما وصلت إلينا من هذه الطريق التي تصل منها القصص والأساطير : طريق الرواية والأحاديث ، طريق الفكاهة واللعب ، طريق التكلف والانتحال . فنحن مضطرون أمام هذا كله إلى أن نحتفظ بحريتنا كاملة ، وإلى أن نقاوم ميولنا وأهواءنا وفطرتنا التي هي مستعدة للتصديق والإطمئنان في سهولة ويسر . ونحن لا نعرف نصاً عربياً وصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة يمكن أن نطمئن إليها قبل القرآن إلا طائفة من النقوش لا تثبت في الأدب حقا ولا تنفي منه باطلا . وهي إن أفادت في تاريخ الرسم وذك كل ما يمكن أن يؤخذ منها إلى الآن . القرآن وحده هو النص العربي القديم الذي يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته ويعتبره مشخصا للعصر الذي تلي فيه . فأما شعر هؤلاء الشعراء وخطب هؤلاء الخطباء وسجع هؤلاء الساجعين فلا سبيل إلى الثقة بها ولا إلى الإطمئنان إليها ، ولا سيما بعد ما بسطنا لك في الكتاب الأول من الأسباب التي تدعو إلى الشك في صحتها ، وبعد ما بسطنا لك في الكتاب الثاني من الأسباب التي كانت تحمل الناس على التكلف والانتحال . وإذا فيجب أن يكون لمؤرخ الآداب العربية موقفان مختلفان : أحدهما أمام الأساطير والأقاصيص والأسمار التي تروى عن العصر الجاهلي . والثاني أمام النصوص التاريخية الصحيحة التي تبتدىء بالقرآن . وقد بينا لك في الكتاب الماضي أن هذا ليس شأن الآداب العربية وحدها ، وإنما هو شأن الآداب القديمة كلها ، وضربنا لك الأمثال بالأدب اليوناني والأدب اللاتيني . لولا أنا نحرص على الإيجاز لضربنا لك أمثالاً أخرى لطائفة من الآداب الحية الحديثة ؛ فلكل أدب قسمه الصحيح وقسمه المتكلف ، ولكل أمة تاريخها الصحيح وتاريخها المنتحل . ولسنا ندري لم يريد أنصار القديم أن يميزوا الأمة العربية والأدب العربي من سائر الأمم والآداب ؟ ومن الذي يستطيع أن يزعم ان الله قد وضع القوانين العامة لتخضع لها الإنسانية كلها إلا هذا الجيل الذي كان ينتسب إلى عدنان وقحطان؟ كلا! الجيل العربي كغيره من الأجيال خاضع لهذه القوانين العامة التي تسيطر على حياة الأفراد والجماعات . للعرب خيالهم الشعبي . وهذا الخيال قد جدّ وعمل وأثمر ، وكانت نتيجة جدّه وعمله وإثماره هذه الأقاصيص والأساطير التي تروى لا عن العصر الجاهليّ وحده بل عن العصور الإسلامية التاريخية أيضاً . وقد رأيت في فصولنا التي سميناها "حديث الأربعاء" أنا نشك في طائفة من هذه القصص الغرامية التي تروى عن العذريين وغيرهم من العشاق في العصر الأموي . ويجب حقاً أن نلغي عقولنا - كما يقول بعض الزعماء السياسيين - لنؤمن بأن كل ما يروى لنا عن الشعراء والكتاب والخلفاء والقواد والوزراء صحيح ، لأنه ورد في كتاب الأغاني أو في كتاب الطبري أو في كتاب المبّرد أو في سفر من أسفار الجاحظ . نعم يجب أن نلغي عقولنا وأن نلغي وجودنا الشخصي وأن نستحيل إلى كتب متحركة : هذا يحفظ الكامل لا يعدوه فيصبح نسخة من كتاب الكامل تمشي على رجلين وتنطق بلسان ؛ وهذا يحفظ كتاب البيان والتبين فيصبح نسخه منه ؛ وهذا يحفظ أخلاطا من هذه الكتب فيصبح مزاجاً غريباً يتكلم مرة بلسان الجاحظ وأخرى بلسان المبّرد وثالثة بلسان ثعلب ورابعة بلسان أبن سلاّم . لأنصار القديم أن يرضوا لأنفسهم بهذا النحو من أنحاء الحياة العلمية . أما نحن فنأبى كل الإباء أن نكون أدوات حاكية أو كتبا متحركة ، ولا نرضى إلا أن تكون لنا عقول نفهم بها ونستعين بها على النقد والتمحيص في غير تحكم ولا طغيان . وهذه العقول تضطرنا ، كما أضطرت غيرنا من قبل ، إلى أن ننظر إلى القدماء كما ننظر إلى المحدثين دون أن ننسى الظروف التي تحيط بأولئك وهؤلاء . فأنا لا أقدس أحدا من الذين يعاصرونني ولا أبرئه من الكذب والانتحال ولا أعصمه من الخطأ والإضطراب . فإذا تحدث إليّ بشيء أو نقل لي عنه شيء ، فأنا لا أقبل حتى أنقد وأتحرّى ، وأحلل وأدقق في التحليل . وما أعرف أن أحدا من أنصار القديم أنفسهم يقدّس المعاصرين ويطمئن إليهم من غير نقد ولا تبصر . وآية ذلك أنهم يحيون حياتهم اليومية كما يحياها أنصار الجديد ؛ فهم يبيعون ويشترون ويدّخرون كما يبيع غيرهم وكما يشتري وكما يدّخر ، وهم يدّبرون أمورهم الخاصة كما يدبرها سائر الناس في مقدار من الذكاء والفطنة والحذر . فما بالهم يصطنعون ملكاتهم الناقدة بالقياس إلى المعاصرين ولا يصطنعونها بالقياس إلى القدماء ؟ وما بالهم إذا كانوا يحبّون التصديق والإطمئنان إلى هذا الحدّ لا يصدقون البائع حين يزعم لهم أن سلعته تساوي عشرين ، بل يعرضون عليه عشرة وأقل من عشرة ويساومون حتى ينتهوا إلى ما يريدون ؟ ولو أنهم صدّقوا المحدثين واطمأنوا إليهم كما يصدّقون القدماء ويطمئنون إليهم لكانوا مضرب الأمثال في الغفلة والبله والحمق ، ولكانت حياتهم كداَّ وضنكا وعناء . ولكنا نحمد لهم الله ، فهم بالقياس إلى معاصريهم أصحاب بصر بالأمور وفطنة بدقائقها وحيلة واسعة للتخلص من المآزق ؛ وهو يشترون اللحم كما نشتريه ويبذلون في الخبز والسمن مثل ما نبذل . وإذاً فما مصدر هذه التفرقة التي يصطنعونها بين القدماء والمحدثين؟ ما لهم يؤمنون لأولئك ويشكّون في هؤلاء ؟ ليس لهذه التفرقة مصدر إلا هذه الفكرة التي تسيطر على نفوس العامة في جميع الأمم وفي جميع العصور، وهي أن القديم خير من الجديد وأن الزمان صائر إلى الشر لا إلى الخير ، وأن الدهر يسير بالناس القهقرى : يرجع بهم إلى وراء ولا يمضي بهم إلى أمام ... زعموا أن القمحة كانت في العصور الذهبية تعدل التفاحة العظيمة حجما ، ثم غضب الله على الناس فأخذت القمحة تتضاءل حتى وصلت إلى حيث هي الآن . وزعموا أن الرجل من الأجيال القديمة كان من الطول والضخامة والقوّة بحيث كان يغمس يده في البحر فيأخذ منه السمك ثم يرفع يده في الجوّ فيشويه في جذوة الشمس ثم يهبط بيده إلى فمه فيزدرد شواءه ازدرادا . وزعموا أن أهل الأجيال القديمة كانوا من الضخامة والجسامة بحيث استطاع بعض الملوك ، أو بعض الأنبياء ، أن يتخذ فخذ أحدهم جسرا يعبر عليه الفرات . فالقديم خير من الجديد , والقدماء خير من المحدثين . يؤمن العامة بهذا إيمانا لا سبيل إلى زعزعته . وهذا الإيمان يتطوّر ويتغير ؛ ولكن أصله ثابت . فأصحاب الحضارة والمدنية الذين أخذوا من العلم بحظ لا يؤمنون بمثل هذه الأحاديث التي قدمتها لك ؛ ولكنهم يرون أن الأخلاق مثلا كانت أشدّ استيقاظا في العصور الأولى ، وأن الأفئدة كانت أشدّ ذكاء ، وأن الأبدان كانت أعظم حظا من الصحة . وعلى هذا النحو يكون تفضيل القديم ، لأنه قديم لا نراه من جهة ، ولأننا ساخطون بطبعنا على الحاضر من جهة أخرى . فهل تظن أن الذين يثقون بخلف وحمَاد والأصمعي وأبي عمرو أبن العلاء يثقون بهم لشيء غير ما قدمت لك ؟ كلا ! كان هؤلاء الناس أحسن من المعاصرين أخلاقاً وأقل منهم ميلا إلى الكذب ، كانوا أذكى منهم أفئدة ، كانوا أقوى منهم حافظة ، كانوا أثقب منهم بصائر . لماذا لأنهم قدماء! لأنهم كانوا يعيشون في هذا العصر الذهبي! أليس العصر العباسي عصراً ذهبياً بالقياس إلى هذا العصر الذي نعيش فيه؟ أما نحن فلا نزعم أن القدماء كانوا شرا من المحدثين ، ولكنا لا نزعم أيضا أنهم كانوا خيرا منهم . وإنما أولئك وهؤلاء سواء ، ولا تفرّق بينهم إلا ظروف الحياة التي تصوّر طبائعهم صورا ملائمة لها دون أن تغير هذه الطبائع . كان القدماء يكذبون كما يكذب المحدثون ، وكان القدماء , يخطئون كما يخطىء المحدثون ، وكان حظ القدماء من الخطأ أعظم من حظ المدحثين ، لأن العقل لم يبلغ من الرقي في تلك العصور وما بلغ في هذا العصر ولم يستكشف من مناهج البحث والنقد ما أستكشف في هذا العصر . فإذا أخذنا أنفسنا بأن نقف أمام القدماء موقف الشك والاحتياط فلسنا غلاة ولا مسرفين ، وإنما نحن نؤدّي لعقولنا حقها ونؤدّي للعلم ماله علينا من دين . وإذا كنا نطلب إلى أنصار القديم شيئا فهو أن يكونوا منطقيين ، وأن يلائموا بين حياتهم حين يقرءون ويكتبون وحياتهم حين يبيعون ويشترون . وإذاً فلنتناول مع الإيجاز الشديد من البحث عن الشعر والشعراء في العصر الجاهلي لنرى إلى أي شيء نستطيع أن نطمئن من هذه الأشعار والأخبار التي امتلأت بها الكتب والأسفار . امرؤ القيس - عبيد - عَلْقَمة لعل أقدم الشعراء الذين يروى لهم شعر كثير ويتحدث الرواة عنهم بأخبار كثيرة فيها تطويل وتفصيل هو امرؤ القيس . ونحن نعلم أن الرواة يتحدثون بأسماء طائفة من الشعراء زعموا أنهم عاشوا قبل أمرىء القيس وقالوا شعرا ، ولكنهم لا يروون لهؤلاء الشعراء إلا البيت أوالبيتين أو الأبيات . وهم لا يذكرون من أخبار هؤلاء الشعراء إلا الشيء القليل الذي لا يغني . وهم يعللون قلة الأخبار والأشعار التي يمكن أن تضاف إلى هؤلاء الشعراء ببعد العهد وتقادم الزمن وقلة الحفّاظ . وقد رأيت في الكتاب الماضي أن قليلا من النقد لما يضاف إلى هؤلاء الشعراء ينتهي بك إلى جحود ما يضاف إليهم من خبر أو شعر . فلندع هؤلاء الشعراء ولنقف عند أمرىء القيس وأصحابه الذين يظهر أن الرواة عرفوا عنهم ورووا لهم الشيء الكثير . من امرؤ القيس؟ أما الرواة فلا يختلفون في أنه رجل من كنْدة . ولكن مَن كنْدة؟ لا يختلف الرواة في أنها قبيلة من قحطان ؛ وهم يختلفون بعض الإختلاف في نسبها وفي تفسير اسمها وفي أخبار سادتها . ولكنهم على كل حال يتفقون على أنها قبيلة يمانية ، وعلى أن امرأ القيس منها . فأما اسم أمرىء القيس واسم أبيه واسم أمه فأشياء ليس من اليسير الاتفاق عليها بين الرواة ؛ فقد كان إسمه امرأ القيس ، وقد كان اسمه حندجا ، وكان اسمه قيسا . وقد كان اسم أبيه عمرا وقد كان اسم أبيه حجْرا أيضا . وكان اسم أمه فاطمة بنت ربيعة أخت مُهلْهِل وكُلَيْب ، وكان اسم أمه تَمْلك . وكان امرؤ القيس يعرف بأبي وهب ، وكان يعرف بأبي الحارث . ولم يكن له ولد ذكر . وكان يئد بناته جميعا . وكانت له إبنة يقال لها هند ؛ ولم تكن هند هذه إبنته وإنما كانت بنت أبيه . وكان يعرف بالملك الضِّلِّيل ، وكان يعرف بذي القروح . وعليك أنت أن تستخلص من هذا الخليط المضطرب ما تستطيع أن تسميه حقا أو شيئا يشبه الحق . وأي شيء أيسر من أن تأخذ ما أتفقت عليه كثرة الرواة على أنه حق لا شك فيـه؟ وكثرة الرواة قد اتفقت على أن اسمه حندج بن حجر ، ولقبه امرؤ القيس ، وكنيته أبو وهب ؛ وأمه فاطمة بنت ربيعة . على هذا اتفقت الكثرة . وإذا اتفقت الكثرة على شيء فيجب أن يكون صحيحا أو على أقل تقدير يجب أن يكون راجحا . أما أنا فقد أطمئن إلى آراء الكثرة ، أو قد أراني مكرها على الاطمئنان لآراء الكثرة ، في المجالس النيابية وما يشبهها . ولكن الكثرة في العلم لا تغني شيئا ؛ فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها ، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة . وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنه غير صحيح . فالكثرة في العلم لا تغني شيئا . وإذاً فليس من سبيل إلى أن نقبل قول الكثرة في امرىء القيس ؛ وإنما السبيل أن نوازن بينه وبين ما تزعم القلة . وليس إلى هذه الموازنة المنتجة من سبيل إذا لا حظت ما قدّمناه في الكتاب الماضي من هذه الأسباب التي كانت تحمل على الانتحال وتكلف القصص . وإذاً فلسنا نستطيع أن نفصل بين الفريقين المختلفين ، وإنما نحن مضطرون إلى أن نقبل ما يقول أولئك وهؤلاء على أن الناس كانوا يتحدثون به دون أن نعرف وجه الحق فيه . ولعل هذا وأشباهه من الخلط في حياة أمرىء القيس أوضح دليل على ما تذهب إليه من أن امرأ القيس إن يكن قد وجد حقا ـــ ونحن نرجح ذلك ونكاد نوقن به ـــ فأن الناس لم يعرفوا عنه شيئاً إلا اسمه هذا ، وإلا طائفة من الأساطير والأحاديث تتصل بهذا الاسم . وهنا يحسن أن نلاحظ أن الكثرة من هذه الأساطير والأحاديث لم تشع بين الناس إلا في عصر متأخر : وفي الرواة المدوّنين والقصاصين . فأكبر الظن إذاً أنها نشات في هذا العصر ولم تورث عن العصر الجاهلي حقا . وأكبر الظن أن الذي أنشأ هذه القصة ونماها إنما هو هذا المكان الذي احتلته قبيلة كندة في الحياة الإسلامية منذ تمت للنبي السيطرة على البلاد العربية إلى أواخر القرن الأول للهجرة . فنحن نعلم أن وفدا من كندة وفد على النبي وعلى راسه الأشعث ابن قيس . ونحن نعلم أن هذا الوفد طلب - فيما تقول السيرة - إلى النبي أن يرسل معهم مفقِّها يعلمهم الدين . نحن نعلم أن كندة ارتدّت بعد موت النبي ، وأن عامل أبي بكر حاصرها في النُّجيْر وأنزلها على حكمه وقتل منها خلقا كثيرا وأوفد منها طائفة إلى أبي بكر فيها الأشعث ابن قيس الذي تاب وأناب وأصهر إلى أبي بكر فتزوّج أخته أم فروة ؛ وخرج- فيما يزعم الرواة- إلى سوق الإبل في المدينة فاستل سيفه ومضى في إبل السوق عقرا ونحرا حتى ظن الناس به الجنون ، ولكنه دعا أهل المدينة إلى الطعام وأدّى إلى أصحاب الإبل أموالهم ؛ وكانت هذه المجزرة الفاحشة وليمه عرسه . ونحن نعلم أن هذا الرجل قد اشترك في فتح الشام وشهد مواقع المسلمين في حرب الفرس ، وحسن بلاؤه في هذا كله ، وتولّى عملا لعثمان ، وظاهر عليا على معاوية ، وأكره عليا على قبول التحكيم في صِفِّين . ونحن نعلم أن ابنه محمد بن الأشعث كان سيِّدا من سادات الكوفة ، عليه وحده أعتمد زياد حين أعياه أخذ حجر بن عديّ الكندي . ونحن نعلم أن قصة حجر بن عديّ هذا وقتل معاوية إياه في نفر من أصحابه قد تركت في نفوس المسلمين عامة واليمنيين خاصة أثرا قويا عميقا مثّل هذا الرجل في صورة الشهيد . ثم نحن نعلم أن حفيد الأشعث بن قيس وهو عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث قد ثار بالحَجَّاج ، وخلع عبدالملك ، وعرّض دولة آل مروان للزوال ، وكان سبباً في إراقة دماء المسلمين من أهل العراق والشام ، وكان الذين قتلوا في حروبه يحصون فيبلغون عشرات الآلاف ، ثم انهزم فلجأ إلى ملك الترك ، ثم أعاد الكرة فتنقَّل في مدن فارس ، ثم أستياس فعاد إلى ملك الترك ، ثم غدر به هذا الملك فأسلمه إلى عامل الحجاج ، ثم قتل نفسه في طريق إلى العراق ، ثم احتُذّ رأسه وطوّف به في العراق والشام ومصر . أفتظن أن أسرة كهذه الأسرة الكندية تنزل هذه المنزلة في الحياة الإسلامية وتؤثر هذه الآثار في تاريخ المسلمين لا تصطنع القصص ولا تأجر القصّاص لينشروا لها الدعوة ويذيعوا عنها كل ما من شانه أن يرفع ذكرها ويبعد صوتها؟ بلى ! ويحدّثنا الرواة أنفسهم أن عبدالرحمن بن الأشعث اتخذ القصّاص وأجرهم كما اتخذ الشعراء وأجزل صلتهم : كان له قاص يقال له عمرو بن ذرّ ؛ وكان شاعره أعشى هَمْدان . فما يروى من أخبار كندة في الجاهلية متأثر من غير شك بعمل هؤلاء القصاص الذين كانوا يعملون لآل الأشعث . وقصة أمرىء القيس بنوع خاص تشبه من وجوه كثيرة حياة عبدالرحمن أبن الأشعث . فهى تمثل لنا امرأ القيس مطالبا بثأر أبيه . وهل ثأر عبدالرحمن عند الذين يفقهون التاريخ إلا منتقما لحجر بن عدىّ؟ وهي تمثل لنا امرأ القيس طامعا في الملك . وقد كان عبدالرحمن بن الأشعث يرى إنه ليس أقل من بني أمية استئهالا للملك ؛ وكان يطالب به . وهي تمثل لنا امرأ القيس متنقلا في قبائل العرب . وقد كان عبدالرحمن أبن الأشعث متنقلا في مدن فارس والعراق . وهي تمثل امرأ القيس لاجئاً إلى قيصر مستعيناً به . وقد كان عبدالرحمن ابن الأشعث لاجئاً إلى ملك الترك مستعيناً به . وهي تمثل لنا أخيراً امرأ القيس وقد غدر به قيصر بعد أن كاد له أسديّ في القصر . وقد غدر ملك الترك بعبدالرحمن بعد أن كاد له رسل الحجاج . وهي تمثل لنا بعد هذا وذاك امرأ القيس وقد مات في طريقه عائداً من بلاد الروم . وقد مات عبدالرحمن في طريقه عائداً من بلاد الترك. أليس من اليسير أن نقترض بل أن نرجح أن حياة امرئ القيس كما يتحدّث بها الرواة ليست إلا لوناً من التمثيل لحياة عبدالرحمن أستحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية في العراق واستعاروا له اسم الملك الضِّلِّيل أتّقاء لعمال بني أمية من ناحية ، وأستغلالاً لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضليل من ناحية أخرى؟ * * * * * ستقول : وشعر امرئ القيس ما شأنه؟ وما تأويله؟ وتأويله أيسر . فأقل نظر في هذا الشعر يلزمك أن تقسمه إلى قسمين : أحدهما يتصل بهذه القصة التي قدمنا الإشارة إليها . وإذاً شأنه شأن هذه القصة انتحل لتفسيرها أو تسجيلها ، وانتحل لتمثيل هذا التنافس القوي الذي كان قائماً بين قبائل العرب وأحيائهم في الكوفة والبصرة . وأقل درس لهذا الشعر يقنعك ، وإن كنت من الذين يألفون البحث الحديث ، بأن هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس ويتصل بقصته إنما هو شعر إسلامي لا جاهلي ، قيل وانتحل لهذه الأسباب التي أشرنا إليها ولأسباب أخرى فصلناها في القسم الثاني من هذا الكتاب . فهذا أحد القسمين . وأما القسم الثاني فشعر لا يتصل بهذا القصة ، وإنما يتناول فنوناً من القول مستقلة من الأهواء السياسية والحزبية . ولنا في هذا القسم رأي نسطره بعد حين . وخلاصـة هذا البحث القصير أن شخصية امرئ القيس- إذا فكرت- أشبه شيء بشخصية الشاعر اليوناني هوميروس . لا يشك مؤرُّخو الآداب اليونانية الآن في أنها قد وجدت حقاً ، وأثرت في الشعر القصصي حقاً ، وكان تأثيرها قوياً باقياً ، ولكنهم لا يعرفون من أمرها شيئاً يمكن الإطمئنان إليه ، وإنما ينظرون إلى هذه الأحاديث التي تروى عنه كما ينظرون إلى القصص والأساطير لا أكثر ولا أقل . فأمرؤ القيس هو الملك الضِّلِّيل حقاً : نريد أنه الملك الذي لا يعرف عنه شيء يمكن الإطمئنان إليه . هو ضُلُّ بن قُل كما يقول أصحاب المعاجم اللغوية . ومن غريب الأمر أن طائفة من الشعر تنسب إلى امرئ القيس على أنه قالها حينما كان متنقلاً في القبائل العربية يمدح بها هذه ويهجو تلك ، وتتصل بهذه الأشعار طائفة من الأخبار تبين نزول امرئ القيس في هذه القبيلة ، وإلتجاءه إلى تلك القبيلة ، وجواره عند فلان ، وإستعانته بفلان ، وأن شيئاً مثل هذا يلاحظ في حياة هوميروس ؛ فهو - فيما يزعم رواة اليونان - قد تنتقل في المدن اليونانية فلقي من بعضها الكرامة والتجلة ، ومن بعضها الإعراض والإنصراف ومؤرّخو الآداب اليونانية يفسرون في هذه الأحاديث على أنها مظهر من مظاهر التنافس بين المدن اليونانية : كلها يزعم لنفسه أنه ضيّف هوميروس أو نشّأة أو أجاره أو عطف عليه . ونحن نذهب هذا المذهب نفسه في تفسير هذه الأخبار والأشعار التي تمس تنقُّل امرئ القيس في قبائل العرب . فهي محدَثة انتحلت حين تنافست القبائل العربية في الإسلام وحين أرادت كل قبيلة وكل حي أن تزعم لنفسها من الشرف والفضل أعظم حظ ممكن . وقد أحس القدماء بعض هذا ؛ فصاحب الأغاني يحدّثنا أن القصيدة القافية التي تضاف إلى امرئ القيس على أنه قالها يمدح بها السموءل حين لجأ إليه منحولةُ نحلها دارم بن عقال ؛ لم ينحل القصيدة وحدها وإنما نحل القصة كلها وانتحل ما يتصل بها أيضاً : نحل قصة ابن المسوءل الذي قتل بمنظر من أبيه حين أبى تسليم أسلحة امرئ القيس ، نحل قصة الأعشى الذي استجار بشريح بن السموءل وقال فيه هذا الشعر المشهور : شريحُ لا تتركنّي بعدما عَلِقتْ حبالـك اليـوم بعــد القدّ أظفاري قد جُلت ما بين بانقيـا إلى عَدَنٍ وطال في العجم تَرْدادي وتَسْياري فكان أكرمهـم عهدا وأوثقهــم مجدا أبوك بعـرف غير إنكــار كالغيث ما استمطروه جاد وابلُه وفي الشدائد كالمستأســد الضاري كن كالمسوءل إذ طاف الهُمام به في جحفل كهزيـع الليل جــرّار إذا سامـه خطَّتـَيّ فقـال له قل ما تشــاء فإنـي سامــع حار فقال غدرُ وثُكـــل أنت بينهما فاختر وما فيهمـا حـظ لمختـار فشطّ غير طويــلِ ثم قال لـه أُقتل أسيرك إني مانـــع جاري أنا له خلـف إن كنـت قاتلَــه وإن قتلت كـــريما غير غوّار وسوف يُعقبنيه إن ظفـرتَ بـه ربٌّ كـــريم وبِيضُ ذاتُ أطهار لا سِرُّهـن لدينـا ذاب هـدرا وحافظات إذا أستودعن أســراري فأختارَ أدراعـه كي لا يسبّ بها ولم يكـن وعــده فيهـا بختـّار ثم كانت هذه القصة المنتحلة سبباً في إنتحال قصة أخرى هي قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية وما يتصل بها من الأشعار . منتحلة هذه القصيدة الرائية الطوية التي مطلعها : سما لك شوقُ بعد ما كان أقصرا وحلّتْ سليمى بطن ظبْي فعَرْعرا منتحل هذا الشعر الذي قاله امرؤ القيس حين دخل الحمام مع قيصر والذي ننزه هذا الكتّاب عن روايته . منتحل هذا الحب الذي يقال إن امرأ القيس أضمره لابنه قيصر . منتحلة هذه الأشعار التي تضاف إلى امرئ القيس حين أحس السم وهو قافل من بلاد الروم . كل هذا منتحل لأنه يفسر هذه الأحاديث التي شاعت ، لتلك الأسباب التي قدّمناها . وإذا لم يكن بد من إلتماس الأدلة الفنية على إنتحال هذا الشعر ، فقد نحب أن نعرف كيف زار امرؤ القيس بلاد الروم وخالط قيصر حتى دخل معه الحمام وفتن ابنته ورأى مظاهر الحضارة اليونانية في قسطنطينية ولم يظهر لذلك أثر ما في شعره : لم يصف القصر ولم يذكره ، لم يصف كنيسة من كنائس قسطنطينية ، لم يصف هذه الفتاة الأمبراطورية التي فتنها ، لم يصف الروميات ، لم يصف شيئاً ما يمكن أن يكون رومياً حقاً . ثم يكفي أن تقرأ هذا الشعر لتحس فيه الضعف والإضطراب والجهل بالطريق إلى قسطنطينية . ومهما يكن من شيء فإن السذاجة وحدها هي التي تعيننا على أن نتصوّر أن شاعراً عربياً قديماً قال هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس في رحلته إلى بلاد الروم وقفوله منها . وإذا رأيت معنا أن كل هذا الشعر الذي يتصل بسيرة امرئ القيس إنما هو من عمل القصّاص فقد يصح أن نقف معك وقفة قصيرة عند هذا القسم الثاني من شعر امرئ القيس وهو الذي لا يفسر سيرته ولا يتصل بها . ولعل أحق هذا الشعر بالعناية قصيدتان إثنتان : الأولى : * فــقــا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * والثانية : * ألا أنعم صباحاً أيـهـــا الطلل البالي * فأما ما عدا هاتين القصيدتين فالضعف فيه ظاهر والاضطراب فيه بين والتكلف والإسفاف يكادان يلمسان باليد . وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدري كيف يتخلص منها أنصار القديم ، وهي أن امرأ القيس - إن صحت أحاديث الرواة - يمنيّ وشعره قرشي اللغة ، لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام . ونحن نعلم ــ كما قدّمناه ــ أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغـة الحجاز ، فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز ؟ بل في لغة قريش خاصة ؟ سيقولون : نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان وكان أبوه ملكاً على بني أسد وكانت أمه من بني تغلب وكان مهلهل خاله ، فليس غريباً أن يصطنع لغة عدنان ويعدل عن لغة اليمن . ولكننا نجهل هذا كله ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس . ونحن بشك في هذا الشعر ونصفه بأنه منتحل . وإذاً فنحن ندور : نثبت لغة امرئ القيس التي نشك فيها بشعر امرئ القيس الذي نشك فيه . على أننا أمام مسألة أخرى ليست أقل من هذه المسألة تعقيداً . فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هي اللغة السائدة في البلاد العربية أيام امرئ القيس؟ وأكبر الظن أنها لم تكن لغة العرب في ذلك الوقت وأنها إنما أخذت تسود في أواسط القرن السادس للمسيح وتمت لها السيادة بظهور الإسلام كما قدّمناه . وإذاً فكيف نظم امرؤ القيس اليمني شعره في لغة القرآن مع أن هذه اللغة لم تكن سائدة في العصر الذي عاش فيه امرؤ القيس؟ وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقاً في شعر امرئ القيس لفظاً أو أسلوباً أو نحواً من أنحاء القول يدل على أنه يمنيّ . فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان فكيف نستيطع أن نتصوّر أن لغته الأولى قد محيت من نفسه محواً تاماً ولم يظهرها أثر ما في شعره؟ تظن أن أنصار القديم سيجدون كثيراً من المشقة والعناء ليحلّوا هذه المشكلة . ونظن أن إضافة هذا الشعر إلى امرئ القيس مستحيلة قبل أن تحل هذه المشكلة . على أننا نحب أن نسأل عن شيء آخر ؛ فامرؤ القيس إبن أخت مهلهل وكليب إبني ربيعة - فيما يقولون - ، وأنت تعلم أن قصة طويلة عريضة قد نسجت حول مهلهل وكليب هذين ، هي قصة البسوس وهذه الحرب التي اتصلت أربعين سنة - فيما يقول القصاص - وأفسدت ما بين القبيلتين الأختين بكر وتغلب . فمن العجيب ألا يشير امرؤ القيس بحرف واحد إلى مقتل خاله كليب ، ولا إلى بلاء خاله مهلهل ، ولا إلى هذه المحن التي أصابت أخواله من بني تغلب ، ولا هذه المآثر التي كانت لأخواله على بنى بكر . وإذاً فأينما وجّهت فلن تجد إلا شكاً : شكا في القصة ، شكا في اللغة ، شكا في النسب ، شكا في الرحلة ، شكا في الشعر . وهم يريدون بعد هذا أن نؤمن ونطمئن إلى كل ما يتحدث به القدماء عن امرئ القيس ! نعم نستطيع أن نؤمن وأن نطمئن لو أن الله رزقنا هذا الكسل العقلي الذي يحبب إلى الناس أن يأخذوا بالقديم تجنبا للبحث عن الجديد . ولكن الله لم يرزقنا هذا النوع من الكسل ، فنحن نؤثر عليه تعب الشك ومشقة البحث . وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف لامرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء وإنما هو محمول عليه حملاً ومختلق عليه اختلاقاً ، حمل بعضه العرب أنفسهم ، وحمل بعضه الآخر الرواة الذين دوّنوا الشعر في القرن الثاني للهجرة . ولننظر في المعلَّقة نفسها ، فلسنا نعرف قصيدة يظهر فيها التكلف والتعامل أكثر مما يظهران في هذه القصيدة . ولا نحفل بقصة تعليق هذه القصائد السبع أو العشر على الكعبة أو في الدفاتر . فما نظن أن انصار القديم يحفلون بهذه القصة التي نشأت في عصر متأخر جدّاً والتي لا يثبتها شيء في حياة العرب وعنايتهم بالآداب . ولكننا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكون في بعض هذه القصيدة فهم يشكون في صحة هذين البيتين : ترى بعر الآرام في عَرَصَاتها وقِيعـانهــا كأنـه حــبُّ فُلفــل كأنى غداة البين يوم تحمـــلَّوا لدى سَمُرَات الحىّ ناقف حنظـــل وهم يشكون في هذه الأبيات : وقربة أقوام جعلتُ عِصامَهـا على كاهـل مني ذَلُول مرحــّل ووادٍ كجوف العَير قفرٍ قطعتُه به الذئبُ يعوي كالخليــع المعيّل فقلت له لما عــوى إن شأننـا قليـلُ إن كنـت لمّـا تمـوّل كلانا إذا ما نال شيئـاً أفاتـه ومن يحترث حَرْثي وحرثك يهزل وهم بعد هذا يختلفون إختلافاً كثيراً في رواية القصيدة : في ألفاظها وفي ترتيبها ، ويضعون لفظاً مكان لفظ وبيتاً مكان بيت . وليس هذا الاختلاف مقصوراً على هذه القصيدة ، وإنما يتناول الشعر الجاهليّ كله . وهو اختلاف شنيع يكفي وحده لحملنا على الشك في قيمة هذا الشعر . وهو إختلاف قد أعطى للمستشرقين صورة سيئة كاذبة من الشعر العربي ، فخّيل إليهم أنه غير منّسق ولا مؤتلف ، وأن الوحدة لا وجود لها في القصيدة ، وأن الشخصية الشعرية لا وجود لها في القصيدة أيضاً ، وأنك تستطيع أن تقدّم وتؤخر وأن تضيف إلى الشاعر شعر غيره دون أن تجد في ذلك حرجاً أو جناحاً مادمت لم تخلّ بالوزن ولا بالقافية . وقد يكون هذا صحيحاً في الشعر الجاهلي ، لأن كثرة هذا الشعر منتحلة مصطنعة . فأما الشعر الإسلامي الذي صحّت نسبته لقائليه فأنا أتحدى أي ناقد أن يبعث به أقل عبث دون أن يفسده . وأنا أزعم أن وحدة القصيدة فيه بينة ، وأن شخصية الشاعر فيه ليست أقل ظهوراً منها في أي شعر أجنبي . وإنما جاء هذا الخطأ من إتخاذ هذا الشعر الجاهلي نموذجاً للشعر العربي ، مع أن هذ الشعر الجاهلي - كما قدّمناه - لا يمثل شيئاً ولايصلح إلا نموذجاً لعبث القصّاص وتكلف الرواة . ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون في أن هذين البيتين قلقان في القصيدة وهما : وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهمــوم ليبتلي فقلت له لمّــا تمطَّى بُصلبــه وأردف أعجازاً وناء بكَلْكَل فقد وضع هذان البيتان للدخول على البيت الذي يليهما وهو : ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصبـاح منك بأمثل وهذان البيتان أشبه بتكلف المشطر والمخمّس منهما بأي شيء آخر فإذا فرغنا من هذا الشعر الذي لا نكاد نختلف في أنه دخيل في القصيدة ، فقد نستطيع أن نرد القصيدة إلى أجزائها الأولى . وهذه الأجزاء هي : أولاً وقوف الشاعر على الدار وما يتصل بذلك من بكاء وإعوال ، ثم ذكره أيام لهوه مع العذارى ، ثم عتابه لصاحبته وما يتصل بذلك من وصف خليلته ، ثم ذكر الليل والإستطراد منه إلى الصيد وما يتوسّل به إلى الصيد من وصف الفرس ، ثم ذكر البرق وما يتبعه من السيل . ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش أشبهُ بأن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون جاهلياً . فالرواة يحدّثوننا أن الفرزدق خرج في يوم مطير إلى ضاحية البصرة فاتبع آثاراً حتى انتهى إلى غدير وإذا فيه نساء يستحممن فقال : ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جُلْجُل ، وولى منصرفاً ؛ فصاح النساء به : يا صاحب البغلة ؛ فعاد إليهن فسألنه وعزمن عليه ليحدّثنهن بحديث دارة جلجل ؛ فقص عليهّن قصة امرئ القيس وأنشدهنّ قوله : أَلاَ ربّ يوم لك منهنّ صالح ولا سيما يوم بدارة جلجل والذين يقرءون شعر الفرزدق ويلاحظون فحشه وغلظته وأنه قد ليم على هذا الفحش وعلى هذه الغلظة لا يجدون مشقة في أن يضيفوا إليه هذه الأبيات ، فهي بشعره أشبه . وكثيراً ما كان القدماء يتحدّثون بمثل هذه الأحاديث يضيفونها إلى القدماء وهم ينتحلونها من عند أنفسهم . ومهما يكن من شيء ، فلغة هذه الأبيات كلغة القصيدة كلها عدنانية قرشية يمكن أن تصدر عن شاعر إسلامي اتخذ لغة القرآن لغة أدبية . أما وصف امرئ القيس لخليلته ، وزيارته إياها ، وتجشّمه ما تجشم للوصول إليها ، وتخوّفها الفضيحة حين رأته ، وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها ، وما كان بينهما من لهو ، فهو أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة منه بأي شيء آخر . فهذا النحو من القصص الغرامي في الشعر فنّ عمر بن أبي ربيعة قد أحتكره إحتكاراً ولم ينازعه فيه أحد . ولقد يكون غريباً حقاً أن يسبق امرؤ القيس إلى هذا الفنّ ويتخذ فيه هذا الأسلوب ويعرف عنه هذا النحو ، ثم يأتي ابن أبي ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة قد تأثر بأمرئ القيس مع أنهم قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء من الوصف . فكيف يمكن أن يكون امرؤ القيس هو منشىء هذا الفن من الغزل الذي عاش عليه ابن أبي ربيعة والذي كوّن شخصية ابن أبي ربيعة الشعرية ولا يعرف له ذلك ؟ وأنت إذا قرأت قصيدة أو قصيدتين من شعر ابن أبي ربيعة لم تكد تشك في أن هذا الفن فنه أبتكره إبتكاراً وأستغله إستغلالاً قوياً ، وعرفت العرب له هذا . وقل مثل هذا في القصص الغرامي الذي تجده في قصيدة امرئ القيس الأخرى : "ألا أنعم صباحاً أيها الطلل البالي" . ففي هذا القصص الفاحش فنّ ابن أبي ربيعة وروح الفرزدق . ونحن نرجح إذاً أن هذا النوع من الغزل إنما أضيف إلى امرئ القيس ، وأضافه رواة متأثرون بهذين الشاعرين الإسلاميين . بقي الوصف ، ولاسيما وصف الفرس والصيد . ولكننا نقف فيه موقف الترذّد أيضاً . واللغة هي التي تضطرنا إلى هذا الموقف . فالظاهر أن امرأ القيس كان قد نبغ في وصف الخيل والصيد والسيل والمطر . والظاهر أنه قد استحدث في ذلك أشياء كثيرة لم تكن مألوفة من قبل . ولكن أقال هذه الأشياء في هذا الشعر الذي بين أيدينا أم قالها في شعر آخر ضاع وذهب به الزمان ولم يبق منه إلا الذكرى وإلا جملُ مقتضبه أخذها الرواة فنظموها في شعر محدّث نسّقوه ولفّقوه وأضافوه إلى شاعرنا القديم؟ هذا مذهبنا الذي نرجحه . فنحن نقبل أن امرأ القيس هو أول من قيّد الأوابد ، وشبه الخيل بالعصي والعقبان وما إلى ذلك ، ولكننا نشك أعظم الشك في أن يكون قد قال هذه الأبيات التي يرويها الرواة . وأكبر الظن أن هذا الوصف الذي نجده في المعلّقة وفي اللامية الأخرى فيه شيء من ريح امرئ القيس ، ولكن من ريحه ليس غير . هناك قصيدة ثالثة نجزم نحن بأنها منتحلة إنتحالاً . وهي القصيدة البائية التي يقال إن امرأ القيس أنشأها يخاصم بها عَلْقمة بن عَبَدَة الفحل ، وأن أم جندب زوج امرئ القيس قد غلّبت علقمة على زوجها . وأنت تجد القصيدتين في ديوان امرئ القيس وديوان علقمة . فأما قصيدة امرئ القيس فمطلعها : خليليّ مُرّا بي على أم جندب نقضِّ لُبانات الفؤاد المعذَّب وأما قصيدة علقمة فمطلعها : ذهبت من الهجران في كل مذهبِ ولم يك حقاًّ هذا التجنُّب ويكفى أن نقرأ هذين البيتين لتحس فيهما رقة إسلامية ظاهرة . على أن النظر في هاتين القصيدتين سيقفك على أن هذين الشاعرين قد تواردا على معان كثيرة بل على ألفاظ كثيرة بل على أبيات كثيرة تجدها بنصها في القصيدتين معاً ، وعلى أن البيت الذي يضاف إلى علقمة وبه ربح القضية يروى لأمرئ القيس ، وهو : فأدركهن ثانياً من عنانه يمرّ كمرّ الرائح المتحلّب والبيت الذي خسر به امرؤ القيس القضية يروى لعلقمة وهو : فللسوطِ أُلهوبٌ وللساق درّة وللزجر منه وقعُ أهوجَ مِتـْعَبِ وأنت تسطيع أن تقرأ القصيدتين دون أن تجد فيهما فرقاً بين شخصية الشاعرين ، بل أنت لا تجد فيها شخصية ما ، وإنما تحس أنك تقرأ كلاماً غريباً منظوماً في جمع ما يمكن جمعه ، من وصف الفرس جملة وتفصيلاً . وأكبر الظن أن علقمة لم يفاخر امرأ القيس ، وأن أم جندب لم تحكم بينهما ، وأن القصيدتين ليستا من الجاهلية في شيء ، وإنما هما صنع عالم من علماء اللغة لسبب من تلك الأسباب التي أشرنا في الكتاب الماضي إلى أنها كانت تحمل علماء اللغة على الانتحال . وكان أبو عبيدة والأصمعي يتنافسان في العلم بالخيل ووصف العرب إياها : أيهما أقدر عليه وأحذق به . وما نظن إلا أن هاتين القصيدتين وأمثالهما أثر من آثار هذا النحو من التنافس بين العلماء من أهل الأمصار الإسلامية المختلفة . وهنا وقفة أخرى لابد منها . ذلك أن امرأ القيس لا يذكر وحده وإنما يذكر معه من الشعراء علقمة - كما رأيت - وعَبيد بن الأبرص . فأما علقمة فلا يكاد الرواة يذكرون عنه شيئاً إلا مفاخرته لأمرئ القيس ومدحه ملكاً من ملوك غَسَّان ببائيته التي مطلعها : طحا بِكَ قلبٌ للحسان طروبُ بعيْد الشباب عصر حان مشيبُ وإلا أنه كان يتردّد على قريش ويناشدها شره ، وإلا أنه مات بعد ظهور الإسلام أي في عصر متاخر جداً بالقياس إلى امرئ القيس الذي مهما يتأخر فقد مات قبل مولد النبي ، والذي نرى نحن أنه عاش قبل القرن السادس وربما عاش قبل القرن الخامس أيضاً . وأما عبيد فقد إلتمسنا في سيرته وما يضاف إليه من الشعر ما يعيننا على إثبات شخصية امرئ القيس وشعره فكانت النتيجة محزنة جداً . ذلك أنها انتهت بنا إلى أن نقف من عبيد وشعره نفس الموقف الذي وقفناه من امرئ القيس وشعره . وليس علينا في ذلك ذنب ؛ فالرواة لا يحدّثوننا عن عبيد بشيء يقبل التصديق . إنما عبيد عند الرواة والقصَّاص شخص من أصحاب الخوارق والكرامات ، كان صديقاً للجنّ والسماء معاً ، عُمّر عمرا طويلاً يصلون به إلى ثلاثة قرون ومات مِيتة منكرة : قتله النعمان بن المنذر أو المنذر بن ماء السماء في يوم بؤســه . والرواة يعرفون شيطان عبيد . واسم هذا الشيطان هبيد ، وقد حاول بعضهم أن يرسل هذا المثل "لولا هبيد ما كان عبيد" . وقد رووا لهبيد هذا شعرا وزعموا أنه أراد أن يلهم الشعر ناساً غير عبيد فلم يوفق . ولعبيد مع الجنّ أحاديث لا تخلو من لذة وعجب . ولكن كل ما نقرأ من أخبار عبيد لا يعطينا من شخصيته شيئاً ولا يبعث الإطمئنان إلا في أنفس العامة أو أشباه العامة . فأما شعر عبيد فليس أشدّ من شخصيته وضوحاً . فالرواة يحدّثوننا بأنه مضطرب ضائع . وابن سلاّم يحدّثنا في موضع من كتابه "طبقات الشعراء" أنه لم يبق من شعر عبيد وطرفه إلا قصائد بقدر عشر ، ولكنه يحدّثنا في موضع آخر أنه لا يعرف له إلا قوله : أقفر من أهله ملحوبُ فالقُطَبِيات فالذّنـــوب ثم يقول ابن سلاّم : ولا أدرى ما بعد ذلك . ولكن رواة آخرين يروون هذه القصيدة كاملة ويروون له شعراً آخر في هجاء امرئ القيس ومعارضته ، وفي إستعطاف حُجْر على بني أسد . ويكفي أن نقرأ هذه القصيدة التي قدّمنا مطلعها لتجزم بأنها منتحلة لا أصل لها . وحسبك أنه يثبت فيها وحدانية الله وعلمه على نحو ما يثبتهما القرآن فيقول : والله ليس له شريكُ عَلاَّمُ ما أخفت القلوبُ فأما شعره الآخر الذي عارض فيه امرأ القيس وهجا فيه كندة فلا حظَّ له من صحة فيما نعتقد . وذلك أن فيه إسفافاً وضعفاً وسهولة في اللفظ والأسلوب لا يمكن أن تضاف إلى شاعر قديم . ويكفى أن تقرأ هذه القصيدة التي أوّلها : ياذا المخوّفنا بقتـــل أبيــه إذلالا وحينا أزعمت أنك قد قتلـــت سراتنا كذبا ومينا لتعرف أنها من عمل القصّاص ، وأن الشّعر وأشباهه إنما هو من أثر التنافس بين العصبية اليمنية والمضرية . ولولا أننا نؤثر الإيجاز ونحرص عليه لروينا لك هذا الشعر ووضعنا لك على مواضيع التوليد فيه ؛ ولكن الرجوع إلى هذا الشعر يسير والحكم عليه أيسر . وإذاً فكل شعر امرئ القيس الذي يتصل بشعر عبيد هذا منحول أيضاً كشعر عبيد . وقد رأيت من هذه الإلمامة القصيرة بهؤلاء الشعراء الثلاثة : (امرئ القيس وعبيد وعلقمة) أن الصحيح من شعرهم لا يكاد يذكر وأن الكثرة المطلقة من هذا الشعر مصنوعة لا تثبت شيئاً ولا تنفي شيئاً بالقياس إلى العصر الجاهلي ؛ لا نستثنى من ذلك إلا قصيدتين إثنتين لعلقمة : الأولى : * طحــا بك قلــــبُ للحسان طـــروبُ * والثانية : * هل ما علمت وما أستودعت مكتوم * فقد يمكن أن يكون لهاتين القصيدتين نصيب من الصحة مع شيء من التحفظ في بعض أبيات القصيدة الثانية . ولكن صحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا في الشعر الجاهلي ؛ فقد رأيت أن علقمة متأخر العصر جداً ، وأنه مات بعد ظهور الإسلام ، ورأيت أيضاً أنه كان يأتي قريشا ويعرض عليها شعره . على أننا احتفظنا لأنفسنا بالشك في بعض أبيات القصيدة الثانية يظهر فيها التوليد ؛ وهي هذه الأبيات التي يذهب فيها الشاعر مذهب الحكمة وضرب المثل . عمرو بن قَمِيئة - مهلهل - جليلة وشاعران آخران يتصل ذكرهما بذكر امرئ القيس . كان أحدهما فيما يقول الرواة - صديقاً له ، صحبه في رحلته في قسطنطينية ، ولم يعد من هذه الرحلة كما لم يعد امرؤ القيس ، وهو عمرو بن قميئة . وكان الآخر خال امرئ القيس - فيما يقول الرواة - وهو مهلهل بن ربيعة . ولابد من وقفة قصيرة عند هذين الشاعرين فسترى بعد قليل من التفكير أن حياتهما ليست أوضح ولا أثبت من حياة امرئ القيس وعبيد ، وأن شعرهما ليس أصح ولا أصدق من شعر امرئ القيس وعبيد . ولنلاحظ قبل كل شيء أن بين امرئ القيس وعمر بن قميئة شبهاً غريباً ؛ فقد كان امرؤ القيس يسمى الملك الضلِّيل . وفسرنا نحن هذا الاسم تفسيراً غير الذي اتفق عليه الرواة وأصحاب اللغة ، فقلنا إنه الملك المجهول الذي لا يعرف عنه شيء ، قلنا ضُلَُ بن قُلّ . وكانت العرب تسمي عمرو بن قميئة عمرا الضائع . فأما المتأخرون من الرواة بعد الإسلام فقد التمسوا لهذه التسمية تفسيراً فوجدوه في سهولة ويسر ، أليس قد رحل مع امرئ القيس في القسطنطينية ؟ أليس قد مات في هذه الرحلة ؟ فهو إذاً عمرو الضائع لأنه ضاع في غير قصد ولا توجه . أما نحن فنفسر هذا الاسم كما فسرناه اسم امرئ القيس ، ونرى أن عمرو بن قميئة ضاع كما ضاع امرؤ القيس من الذكرة ، ولم يعرف من أمره شيء إلا اسمه هذا كما لم يعرف من أمر امرئ القيس ولا من أمر عبيد إلا اسمهما ، ووضعت له قصة كما وضعت لكل من صاحبه قصة ، وحمل عليه شعر كما حمل على صاحبيه الشعر أيضاً . قال الرواة : إن ابن قميئة عُمَّر طويلاً وعرف امرأ القيس وقد انتهت به السن إلى الهرم ، ولكن امرأ القيس أحبه واستصحبه في رحلته رغم سنه . قال ابن سلاّم : إن بني أقيِّش كانوا يدّعون بعض شعر امرئ القيس لعمرو بن قميئة ، وليس هذا بشيء . وفي الحق أن هذا ليس بشيء ؛ فإن هذا الشعر لا يمكن أن يكون لعمرو بن قميئة كما لا يمكن أن يكون لامرئ القيس فهو شعر محدَث محمول . وإذا كان عمرو بن قميئة لم يعرف امرأ القيس ، إلا بعد أن تقدّمت به السن وأدركه الهرم فيجب أن يكون قد قال الشعر قبل امرئ القيس الذي لم تتقدم به السن . والرواة يزعمون أن ابن قميئة قال الشعر في شبابه الأول . وإذاً فليس امرؤ القيس هو أول من فتح للناس باب الشعر . ولكن ما لنا نقف عند شيء كهذا والرواة يضطربون فيه اضطرابا شديداً ؟ فهم يزعمون أن أول من قصَّدَ القصائد مهلهل بن ربيعة خال امرئ القيس . وكأن امرأ القيس إنما جاءه الشعر من قِبل أمه . ومعنى ذلك أن الشعر عدناني لا قحطاني . ومن هنا نشأت نظرية أخرى تزعم أن الشعر يماني كله ، ُبدئ بأمرئ القيس في الجاهلية وختم بأبي نُوّاس في الإسلام . فأنت ترى أنا حين نقف عند مسألة كهذه لا نتجاوز العصبية بين عدنان وقحطان . ولكن سترى أكثر من هذا بعد قليل . قصة عمرو بن قيمئة التي يرويها الرواة ليست شيئاً قيماً ، وإنما هي حديث كغيره من الأحاديث ؛ فهم يزعمون أن أباه تُوفـّي عنه طفلاً فكفله عمه ؛ ونشأ عمرو جميلاً وضيء الطلعة فكلِفت به امرأة عمه وكتمت ذلك حتى إذا غاب زوجها لأمر من أموره أرسلت إلى الفتى ، فلما جاء دعته إلى نفسها ، فامتنع وفاءً لعمه وامتناعاً عن منكر الأمر ، وانصرف . ولكنها حنقت عليه وألقت على أثره جفنة ، حتى إذا عاد زوجها أظهرت الغضب والغيظ وقصّت على زوجها الأمر وكشفت عن الأثر ؛ فغضب الرجل على ابن أخيه . وهنا يختلف الرواة ، فمنهم من يزعم أنه همّ بقتله ، فهرب إلى الحيرة ، ومنهم من يزعم أنه أعرض عنه . ومهما يكن من شيء فقد اعتذر الشاب إلى عمه في شعر نروي لك منه طرفاً لتلمس بيدك ما فيه من سهولة ولين وتوليد : خليليّ لا تستعجـلا أن تـزوّدا ... وأن تجمعا شملي وتنتظرا غـدا فما لبثي يومــاً بسائق مغنـم ... ولا سرعتي يوماً بسائقة الرّدَى وإن تنظرا في اليوم أفضِ لُبانـة ... وتستوجبـا مَنَّا عليّ وتُحمـدا لعمرك ما نفـس بجـدٍّ رشيـدةُ ... تؤامرني سـوءاً لأصِرم مرثَدا وإن ظهرت مني قوارصُ جّمةُ ... وأُفرغ مـن لؤمي مراراً وأُصعدا على غير جُرم أن أكـون جنيته ... سوى قـول بـاغ كادني فتجهّدا لعمري لنعـم المرء تدعـو بخلة ... إذا ما المنـادي في المقامة نددا عظيـم رمـاد القـدر لا متعبّس ... ولا مؤيـس منها إذا هو أوقـدا وإن صرّحت كَحْلٌ وهبَّتْ عَرِيَّةُ ... من الريح لم تترك من المال مرقدا صبرت على وطء الموالي وخطبهم ... إذا ضنّ ذو القربى عليهم وأخمدا ولم يحـم حـُرْم الحي إلا محافـظُ ... كريم المحيّا ماجــد غير أجردا ونظن أن النظر في هذه القصة وفي القصيدة يكفى ليقتنع القارئ بأننا أمام شيء منتحل متكلف لا حظ له من صدق . وليس خيراً من هذه القصيدة هذا الشعر الذي يقال إن عمرو بن قميئة أنشأه لمّا تقدّمت به السنّ يصف به هرمه وضعفه . ولعله قاله قبل أن يرتحل مع امرئ القيس إلى بلاد الروم . ويزعم الشعبي ، أو من روى عن الشعبي أن عبد الملك بن مروان تمثل به في علّته التي مات فيها . وهو : كأني وقـد جاوزت ُ تسعيـن حِجـَّة ... خلعتُ بهـا عني عِنـانَ لجامي على الراحتينِ مـرّة وعلى العصــا ... أنـوء ثـلاثاً بعدهـن قيــامي رمتني بناتُ الدهـر من حيث لا أرى ... فما بال مـن يُرْمَى وليس بـرام فلو أنّ مـا أُرْمَى بنبـــل رميتهـا ... ولكنمـا أُرْمَـى بغـر سهـــام إذا رآني النـــاس قالــوا ألم يكن ... حديثـاً جديد البـرى غير كَهـام وأفنى ومـــا أُفْنى من الدهـر ليلة ... وما يُفنـى ما أفنيت سلـك نظامي وأهلكــني تأميــل يــومٍ وليلةٍ ... وتأميـلُ عــامٍ بعد ذاك وعــام فنحن نستطيع بعد هـــذا أن نضيــف عمــرو بن قميئـــة إلى صاحبيــه الضائعيـن : (عبيد وامرئ القيس) ، وأن ننتقل إلى مهلهل ، لنرى ماذا يمكن أن يثبت لنا من أمره وشعره . فأما أمره فنظن أنه يسير لا سبيل إلى الإختلاف فيه . فيجب أن نبلغ من السذاجة حظاً غير قليل لنسلم بما كان يتحدّث به الرواة من أمر هذه القصة الطويلة العريضة : قصة البسوس . ونظن أن الاتفاق يسير على أن هذه القصة قد طوّلت ونميت وعظم أمرها في الإسلام حين اشتدّ التنافس بين ربيعة ومضر من ناحية ، وبين بَكْر وتَغْلِب من ناحية أخرى . وليس مهلهل في حقيقة الأمر إلا بطل هذه القصة ؛ فقد عظم أمره وأرتفع شأنه بمقدار ما نميت هذه القصة وطُول فيها . ولسنا ننكر أن خصومة عنيفة كانت بين القبيلتين الشقيقتين بكر وتغلب في العصور الجاهلية القديمة ، وأن هذه الخصومة قد انتهت إلى حروب سفكت فيها الدماء وكثرت فيها القتلى ؛ ولكن أسباب هذه الخصومة ومظاهرها وأعراضها وآثارها الأدبية قد ذهبت كلها ولم يبق منها إلا ذكرى ضئيلة تناولها القصاص فأستغلّوها إستغلالاً قوياً ، ووجدت بكر وتغلب وربيعة كلها حاجتها في هذا الإستغلال . ولم لا ؟ ألم تكن النبوّة والخلافة ومظاهرها الشرف كلها لمضر في الإسلام ؟ وكيف يستطيع العرب من ربيعة أن يؤمنوا لمضر بهذه السيادة وهذا المجد دون أن يثبتوا لأنفسهم في قديم العهد على أقل تقدير مجداً وشرفاً وسيادة ؟ وقد فعلوا : فزعموا أنهم كانوا سادة العرب من عدنان في الجاهلية : كان منهم الملوك والسادة ، وكان منهم الذين قاوموا طغيان اللخميين في العراق والغَسّانيين في الشام ، وكان منهم الذين هزموا جيوش كسرى في يوم ذي قار . لمضر إذاً حديث العرب بعد الإسلام ، ولربيعة قديم العرب قبل الإسلام . فإذا لاحظت إلى هذا ما كان من الخصومة الفعلية بين ربيعة ومضر أيام بني أمية وما كان من الخصومة الأدبية بين جرير شاعر مضر الذي يقول : إنّ الــذي حــرم المكارمَ تَغْلِبـًا جعل النبـوّة والخـلافة فينا هذا أبن عمي في دِمَشْــقَ خليفـة لو شئـت ساقكـُمُ أليّ قطينا وبين الأخطل الذي يقول : أبني كُلَيْــبٍ عَمََََّّّـــى اللـــَّذا قتــلا الملوكَ وفكَّكا الأغلالا نقول إذا لاحظت كل هذه الخصومات لم يصعب عليك أن تتصوّر كثرة الانتحال في القصص والشعر حول ربيعة عامّة وحول هاتين القبيلتين من ربيعة خاصة ، وهما بكر وتغلب . على أن بعض الرواة كانوا يظهرون كثيراً من الشك فيما كانت تتحدّث به بكر وتغلب من أمر هذه الحروب . ومهما يكن من شيء فليست شخصية مهلهل بأوضح من شخصية امرئ القيس أو عبيد أو عمرو بن قميئة ؛ وإنما تركت لنا قصة البسوس منه صورة هي إلى الأساطير أقرب منها إلى أي شيء آخر . ومن هنا قال ابن سلاّم إن العرب كانت ترى أن مهلهلاً لم يتكثر ويدّعي في شعره أكثر مما يعمل . والحق أن مهلهلاً لم يتكثر ولم يدَّع شيئاً ، وإنما تكثرت تغلب في الإسلام ونحلته ما لم يقل . ولم تكتف بهذا الانتحال بل زعمت أنه أوّل من قصّد القصيد وأطال الشعر ، ثم أحسّت ما نحس الآن أو أحسه الرواة أنفسهم وهو أن في هذا الشعر اضطراباً وإختلاطاً ، فزعمت ، أو زعم الرواة ، أنه لهذه الإضطراب والإختلاط سمّي مهلهلاً ، لأنه هلهل الشعر . والهلهلة الإضطراب . ويستشهد ابن سلاّم على هذا بقول النابغة : * أتاك بقول هَلْهَلِ النسجِ كاذبِ * وليس من شك في أن شعر مهلهل مضطرب ، فيه هلهلة وإختلاط . ولكننا نستطيع أن نجد هذه الهلهلة نفسها في شعر امرئ القيس وعبيد وأبن قميئة وكثير غيرهم من شعراء العصر الجاهلي ؛ فقد كانوا جمعياً مهلهلا إذاً . غير أننا لانستطيع أن نطمئن إلى أن يهلهل شعراء الجاهلية جميعاً الشعر بحيث يصبح لكل واحد منهم شخصيات شعرية مختلفة تتفاوت في القوّة والضعف وفي الشدّة واللين وفي الإغراب والسهولة . وإذاً فمن الذي هلهل الشعر ؟ هلهله الذين وضعوه من القصّاص والمنتحلين وأصحاب التنافس والخصومة بعد الإسلام . ويحسن أن نظهرك على شيء من شعر مهلهل لترى كما نرى أنه لا يمكن أن يكون أقدم شعر قالته العرب : أليلتنـا بــــذى حُسُــم أنيـري إذا أنت إنقضيــت فلا تحوري فإن يـك بالذنائب طـــال ليلي فقـــد أبكـــى من الليل القصير فلو نبش المقابــــرُ عن كُلَيْب لأُخبـر بالذنــائب أيّ زيــــر ويــــوم الشعشمين لقــرّ عيناً ، وكيــف لقــاءُ مَنْ تحت القبور على أني تركــت بـــواردات بُجَيــــْراً في دم مثــل العبيـر هتكت به بيــــوت بنى عُبّــاد وبعض الغشـم أشفى للصـــدور على أن ليس يوفى من كليــب إذا بــرزت مخبَّـــأة الخــــدور وهّمام بن مـــُرّةَ قد تركنـــــا عليـــه القُشْعمـان من النسـور ينــوء بصــدره والرمــح فيه ويخلجـــــه خِدبٌ كالبعيـــر فلولا الريـحُ أُسمِـــعُ منَ بِحُجْرٍ صليل البيــــض تُقـرع بالذكـور فدى لبني شقيقــة يــــوم جاءوا كأســـد الغـاب لجـّت في الزئير كــأنّ رماحهـــم أشطـانُ بئر بعيــد بيــن جالَيْهــا جـــَرور غــداة كأننــــا وبني أبينـــا بجنــب عُنيزة رَحَيَــــا مُديــر تظلُّ الخيل عاكفــةً عليهـــم كـأنّ الخيــل تُرْحض في غديــــر أليس يقع من نفسك موقع الدهش أن يستقيم وزن هذا الشعر وتطَّرد قافّيته وأن يلائم قواعد النحو وأساليب النظم لا يشذ في شيء ولا يظهر عليه شيء من أعراض القدم أو مما يدل على أن صاحبه هو أوّل من قصّد القصيد وطوّل الشعر ؟ أليس يقع في نفسك هذا كله موقع الدهش حين تلاحظ معه سهولة اللفظ ولينة وإسفاف الشاعر فيه إلى حيث لا تشك أنه رجل من الذين لا يقدرون إلا على مبتذل اللفظ وسُوقّيه ؟ ولكننا لا نريد أن نترك مهلهلاً هذا دون أن نضيف إليه امرأة أخيه جليلة التي رثت كليبا - فيما يقول الرواة - بشعر لا ندري أيستطيع شاعر أو شاعرة في هذا العصر الحديث أن يأتي بأشدّ منه سهولة ولينا وإبتذالاً ، مع أننا نقرأ للخنساء وليلى الأخيلية شعراً فيه من قوّة المتن الأََسْر ما يعطينا صورة صادقة للمرأة العربية البدوية . قالت جليلة : يا إبنة الأقــــوام إن شئت فلا تعجــــلي باللــوم حتى تسألي فــإذا أنــت تبينــت الـــذي يَوجبُ اللومَ فلـــومي وأعذُلي إن تكن أخت امرئ ليمت على شَفــَقٍ منهــــــا عليــه فأفعلي جلّ عنــدي فعل جسّــــاسٍ فيا حسرتــي عما انجلـى أو ينجلي فعـل جسّــاس على وجـدي به قاصم ظهـــري ومُـــدْنٍ أجلي يا قتيــلا قـــوّض الدهـــر به سقفَ بيتيَّ جميعـاٌ مــن عَلِ هـــــدم البيتَ الــذي إستحدثتـه وانثنى في هــدم بيتي الأوّل ورمــاني قتلـــه مــــــن كثبٍ رمية المصمى به المستأصَل يانســــائي دونكــــنّ اليــوم قد خصّني الدهـر برزء معضل خصّني قتــــل كليــب بلظــى مـــن ورائي ولظـى مستقبلي ليس من يبكي ليوميـــه كمــن إنما يبـــــكي ليــــوم ينجلي وقد أعرضنا في كل هذه الأحاديث عن أسجاع ما نظن أن أحدا يرتاب في أنها مصنوعة متكلفة . ونعتقد أن قراءة هذا الشعر الذي رويناه تكفي لنضيف في غير مشقة مهلهلاً وامرأة أخيه إلى إبن أخته امرئ القيس . وقد فرغنا من امرئ القيس ومن يتصل به من الشعراء ولكننا لم نفرغ من الشعراء أنفسهم فلا بدّ من وقفات أخرى قصيرة عند طائفة منهم . وستثبت لك هذه الوقفات أننا لسنا غلاة ولا مسرفين إن خشينا ألا يقتصر الشك على امرئ القيس وشعره . عمر بن كُلْثوم - الحارث بن حِلّزِة ونحن حين ندع مهلهلاً وامرأة أخيه إلى هذين الشاعرين من أصحاب المعلقات لا نتجاوز ربيعة بل لا نتجاوز هذين الحيين من ربيعة وهما حيّا بكر وتغلب . فعمرو بن كلثوم تغلبي ، وهو في عرف الرواة لسان تغلب الناطق ، هو الذي سجل مفاخرها وأشاد بذكرها في شعره ، أو بعبارة أدق : في قصيدته التي تروى بين المعلقات . وقد كان - فيما يقول الرواة - بطلا من أبطال تغلب ورث القوّة والأيد وشدّة البأس وإباء الضيم عن جدّه مهلهل ؛ فقد كانت أمه ليلى بنت مهلهل . . وقد أحيط عمرو بن كلثوم في مولده ونشأته بل في مولد أمه بطائفة من أساطير لا يشك أشدّ الناس سذاجة في أنها لون من ألوان العبث والانتحال : زعموا أن مهلهلا لما ولدت له ليلى أمر بوأدها فأخفتها أمها ، ثم نام فأتاه آت وتنبأ له بأن إبنته هذه ستلد إبناً يكون له شأن ، فلما أصبح سأل عن إبنته وُئدت فكذب وألح فأُظهرت له فأمر بإحسان غذائها . ثم تزوجت كلثوما فما زالت ترى فيما يرى النائم من يأتيها فيخبرها عن إبنها بالأعاجيب حتى ولدته ونشأته . قالوا وقد ساد عمرو بن كلثوم قومه ولما يتجاوز الخامسة عشرة . فكل هذه الأحاديث التي تشير إليها إشارة ، تدل على أن عمرو بن كلثوم قد أحيط بطائفة من الأساطير جعلته إلى أبطال القصص أقرب منه إلى أشخاص التاريخ . ومع ذلك فقد يظهر أنه وجد حقاً ، وقد يظهر أنه على خلاف من قدّمنا ذكرهم من الشعراء . وقد أعقبَ ؛ فصاحب الأغاني يحدّثنا بأن له عقبا كان باقيا إلى أيامــه . وسواء أكان عمرو بن كلثوم شخصاً من أشخاص التاريخ . أم بطلاً من أبطال القصص ، فإن القصيدة التي تنسب إليه لا يمكن أن تكون جاهلية أو لا يمكن أن تكون كثرتها جاهلية . وهل نستطيع قبل كل شيء أن نطمئن إلى ما يتحدّث به الرواة من أن عمرو بن كلثوم قتل ملكاً من ملوك الحيرة هو عمرو بن هند المشهور ، وذلك حين بغى عمرو بن هند هذا وانتهى به الطغيان إلى أن طمع في أن تستخدم أمه ليلى بنت مهلهل أن تناولها طبقاً ؛ فأجابتها ليلى : لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها ؛ فألحت هند ؛ فصاحت ليلى : وَا ذُلاَّه يا لَتغلب ! وكان ابنها عمرو في قبة الملك فسمع دعاءها فوثب إلى سيف معلق فضرب به الملك ، ونهضت بنو تغلب فنهبوا قبة الملك وعادوا إلى باديتهم . غير أن النص التاريخي الذي يثبت هذه القصة لم يصل إلينا بعد . وهل من المعقول أن يقتل ملك الحيرة هذه القتلة ويقف الأمـر عند هذا الحد بين آل المنذر وبني تغلب من ناحية وبين ملوك الفرس وأهل البادية من ناحية أخرى ؟ أليس هذا لوناً من الأحاديث التي كان يتحدّث بها القصاص يستمدّونها من حاجة العرب إلى المفاخرة والتنافس ؟ بلى ! وقصيدة عمرو بن كلثوم نفسها نوع من هذا الشعر الذي ينتحل مع هذه الأحاديث . وأنت إذا قرأت هذه القصيدة رأيت أن مهلهلاً لم يكن يتكثر وحده وإنما أورث التكثر والكذب سبطه عمرو بن كلثوم ؛ فلسنا نعرف كلمة تضاف إلى الجاهليين وفيها من الإسراف والغلوّ ما في كلمة عمرو بن كلثوم هذه . على أن رأى الرواة فيها يشبه رأيهم في معلقة امرئ القيس ؛ فهم يشكون في بعضها وهم يختلفون في الأبيات الأولى منها : أقالها عمرو بن كلثوم أم قالها عمرو بن عديّ أبن أخت جَذيمة الأبرش ؟ فأما الذين يضيفون هذه الأبيات لعمرو بن كلثوم فيرون أن مطلع القصيدة : * ألا هُبّي بصحنك فأصبحينا * وأما الآخرون فيرون أن مطلعها : * قفي قبل التفرّق يا ظعينا * وأولئك وهؤلاء لا يختلفون في إنطاق عمرو بن عديّ بالبيتين : صـددت الكأس عنا أمَّ عمرو وكان الكأس مجـــراها اليمينا وما شَرُّ الثلاثـــة أم عمـرو بصاحبــك الذي لا تصبحينا وأنت حين تمضي في القصيدة ترى فيها أبياتاً مكررة تقع وسط للقصيدة وفي آخرها . ولكن هذا النحو من الإضطراب مشترك في أكثر الشعر الجاهلي ، مصدره إختلاف الروايات . فإذا قرأت القصيدة نفسها فستجد فيها لفظاً سهلا لا يخلو من جزالة ، وستجد فيها معاني حسانا وفخر لا بأس به لولا أن الشاعر يسرف فيه من حين إلى حين إسرافاً ينتهي به إلى السخف كقوله : إذا بلغ الرضيعُ لنا فطاماً تخِزُّ له الجبابر ساجدينا وستجد فيها أبياتاً تمثل إباء البدوي للضيم وإعتزازه بقوتـه وبأسـه كقــوله : ألا لا يجهلَنْ أحدُ علينا فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا قلت إن هذا البيت يمثل إباء البدوي للضيم . ولكني أسرع فأقول إنه لا يمثل سلامـة الطبع البدوي وإعراضه عن تكرار الحروف إلى هذا الحدّ الممل ألا لا يجهلن أحد علينـا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فقد كثرت هذه الجيمات والهاءات واللامات وأشتدّ هذا الجهل حتى مُلَّ . وهم يحملون على الأعشى بيتاً فيه مثل هذا النوع من التعسف . ولكنا نشك في صحة هذا البيت الذي يضاف إلى الأعشى . ومهما يكن من شيء ، فإن في قصيدة ابن كلثوم هذه من رقة اللفظ وسهولته ما يجعل فهمها يسيراً على أقل الناس حظاً من العلم باللغة العربية في هذا العصر الذي نحن فيه . وما هكذا كانت تتحدّث العرب في منتصف القرن السادس للمسيح وقبل ظهور الإسلام بما يقرب من نصف قرن . وما هكذا كانت تتحدّث ربيعة خاصة في هذا العصر الذي لم تسد فيه لغة مضر ولم تصبح فيه لغة الشعر . بل ما هكذا كان يتحدّث الأخطل التغلبي الذي عاش في العصر الأموي أي بعد ابن كلثوم بنحو قرن . واقرأ هذه الأبيات وحدّثني أتطمئن إلى جاهليتها : قفي قبل التفرّق يا ظعينا نخبـِّرْكِ اليقـيـن وتُخبــرينا قفي نسالْك هـل أحدثت صَرْمَّا لَو شْك البين أم خُنتِ الأمينا بيوم كريهة ضـرباً وطعنــاً أقـرّ بـه مواليـك العيونا وإن غدا وإن اليـــوم رهـن وبعد غـد بمـا لا تعلمينا تُريك إذا دخلتَ على خَــلاَءٍ وقد أمِنت عيـونَ الكاشحينا ذراعيْ ععَيْطل أدمـاء بكـرٍ هجان اللـون لم تقـرأ جنينا وثدياً مثل حُقَّ العاج رَخْصـاً حصــانا من أكف اللامسينا ومَتـْنيْ لَدْنةٍ سَمَقت وطـالت روادفهـا تنـوء بمـا ولينا ومأكَمَة يضيق الباب عنهـــا وكشحـا قد جُننت به جنونا وساريتيْ بَلَنْــطٍ أو رُخـــام يرنّ خشاش حليهمـا رنينا وأقرأ هذه الأبيات أيضاً : أَلاَ لا يعلم الأقــــوام أماّ تضعضعنـا وأنــا قد ونينا ألا لا يجهلنْ أحـــد علينا فنجهـل فـوق جهل الجاهلينا بأي مشيئة عمروّ بن هند نكــــون لَقْيلكـم فيهـا قطينا بأي مشيئة عمرّو بن هند تُطيع بنا الوشــــاةَ وتزدرينا تَهَدَّدْنا وأوعِدْنـا رويــداً متــى كنــا لأمـك مقتويتا فإن قناتَنا يـاعمرو أعيت على الأعِـــداء قبلك أن تلينا وهذه الأبيات : ونحن التاركـــون لما تخطِنا ونحـن الآخذون لما رضينا وكنا الأيمنينَ إذا إلتْقينـــــا وكـان الأيسرين بنـو أبينا فصالوا صولةً فيمن يليهم وصُلْنـــا صولـــة فيمن يلينا فآبَوْا بالنهاب وبالسبايـــا وأُبنــا بالملـوك مُصَفَّــدينا إليكم يا بني بكـر إليكــم ألَّمـــا تعرفـــوا منـا إليقينا وهذه الأبيات وقارن بينهما وبين الأبيات الأخيرة : وقـــد علم القبائـل من مَعَدَّ إذا قُبــَبٌ بأبطحهـا بُنِينا بأنــــا المطعمـون إذا قدَرنا وأنـاّ المهلكون إذا ابتُلينا وأنـــا المانعون لمـا أردنـا وأنـا النازلون بحيث شينا وأنـــا التاركون إذا مَخِطـنا وأنـا الآخذون إذا رضينا وأنـــا العاصمون إذا أُطعنا وأنـا العارمون إذا عُصِينا ونشرب إن وردنا الماء صَفْواً ويشرب غيرنا كَدَراً وطينا وهذه الأبيات : إذا المَلْكُ سام الناس خَسفـاً أبينـــــا نقــرّ الـــذل فينا لنا الدنيا ومن أمسـى عليــها ونبطش حيـــن نبطش قادرينا ملآنا البر حتى ضـاق عنا وماءَ البحـــــر نملــؤه سفينا إذا بلغ الرضيع لنــا فِطـاماً تخزّلــــه الجبابــر ساجدينا أمتن من هذه القصيدة وأرصن قصيدة الحارث بن حلّزة ، وكان لسان بكر ، يقول الرواة ، ومحاميها والذائد عنها بين يدي عمرو بن هند أيضاً . زعموا أن عمرو بن هند أصلح بين القبيلتين المختصمتين بكر وتغلب وإتخذ منهما رهائن ، فتعرّضت رهائن تغلب لبعض الشر وهلكت أو هلك أكثرها ، فتجنت تغلب على بكر وطالبت بدية الهلكى ، وأبن بكر ، وكادت تستأنف الحرب بينهما ، واجتمعت أشرافهما إلى عمرو بن هند ليحكم بينهم ، وأحس الحارث ميل الملك إلى تغلب فنهض فأعتمد على قوسه وأرتجل هذه القصيدة . قالوا وكان به وضح ، وكان الملك قد أمر أن يكون بينه وبينه ستار ، فلما أخذ ينشد قصيدته أخذ الملك يعجب به ويدنيه شيئاً فشيئاً حتى أجلسه إلى جانبه وقضى لبكر . ويكفي أن تقرأ هذه القصيدة لترى أنها ليست مرتجلة إرتجالاً وإنما هي قصيدة نظمت وفكر فيها الشاعر تفكيراً طويلاً ورتب أجزائها ترتيباً دقيقاً . وليس فيها من مظاهر الارتجال إلا شيء واحد هو هذا الإقواء الذي تجده في قوله : فملكنا بذلك الناس حتى ملك المنذر بن ماء السماء فالقافية كلها مرفوعة إلى هذا البيت . ولكن الإقواء كان شيئاً شائعاً حتى عند الشعراء الإسلاميين الذين لم يكونوا يرتجلون في كل وقت . تقول إن قصيدة الحارث أمتن وأرصن من قصيدة ابن كلثوم . وقد نظمتا في عصر واحد ، إن صح ما يقول الرواة ، فهما مسوقتان إلى عمرو بن هند . فاقرأ هذه الأبيات للحارث وقارن بينهما في اللفظ والمعنى وبين ما قدّمنا لك من شعر عمرو : ملكُ أضرعَ البريـّةَ لا يـوجد فيهـــا لما لديــه كِفاءُ ما أصابوا من تغلبيَّ فمطلو ل ، عليـه إذا أصيــب العَفاء كتكاليف قومنا إذ غزا المنــذر هل نحن لابـن هند رِعاء إذ أحلّ العلياء قبــة مَيْسُــون فأدنى ديارها العـوصاء فتأوّت لـــه قَراَضِبـةُ مــن كـل حـي كأنهـم ألقاء فهداهم بالأسودين وأمر الــله بَلْغ تشقى بـــه الأشقياء إذ تمنونهم غرورا فساقتــهم إليكـــم أمنيــة أَشْـراء لم يغرّوكُمُ غرورا ولكـــن رفع الآلُ شخصَهم والضَّحاء وأنظر إلى هذه الأبيات يعير فيها الشاعر تغلْب بإغارات كانت عليهم لم ينتصفوا لأنفسهم من أصحابها : أعلينا جُناح كِنْـــــدة أن يغـنم غازيهـــمُ ومنّا الجـزاء ليس منا المضِّربون ولا قيـ ـس ولا جنـــدل ولا الحــذّاء أم جنايـا بني عتيق فمن يغـ در فإنا من حربهــم بـــرآء أم علينا جرّى العباد كما نيــط يجـــوز المحمّل الأعبــاء وثمانون من تميم بايديــــــــهم رماح صدورهن القضاء تركوهـــم مُلَحَّبين وآبــوا بنهــاب يُصم منهــا الحـداء أم علينا جرّّى حنيفة أم مـــا جمعت من مُحارب غبـــراء أم علينا جَرَّى قُضاعة أم ليــس علينــا فيمــا جنوا أنـداء ثم جاءوا يسترجعون فلم تر جع لهــم شامــة ولا زهـراء فأنت ترى أن بين القصيدتين فرقا عظيماً في جودة اللفظ وقوّة المتن وشدّة الأسر . على أن هذا لا يغير رأينا في القصيدتين ، فنحن نرجح أنهما منتحلتان . وكل ما في الأمر أن الذين كانوا ينتحلون كانوا كالشعراء أنفسهم يختلفون قوّة وضعفا وشدّة ولينا . فالذي انتحل قصيدة الحارث بن حِلِّزة كان من هؤلاء الرواة الأقوياء الذين يحسنون تخير اللفظ وتنسيقه ونظم القصيد في متانه وأَيْد . ولسنا نتردّد في أن نعيد ما قلناه من أن هاتين القصيدتين وما يشبههما مما يتصل بالخصومة بين بكر وتغلب إنما هو من آثار التنافس بين القبيلتين في الإسلام لا في الجاهلية . طَرَفة بن العبد - المُتَلَمِّس وشاعران آخران من ربيعة نقف عندهما وقفة قصيرة هما طرفة ابن العبد والمتلمِّس . وإنما نجمعهما لأن القصص جمعهما من قبل . فقد زعموا أن المتلمِّس كان خال طرفة . ولم يقف جمع القصص بينهما عند هذا الحدّ بل قد جمعهما في الشيء القليل الذي نعرفه عنهما ؛ ذلك أن لطرفة والمتلمِّس أسطورة لهج بها الناس منذ القرن الأوّل للهجرة . وهم يختلفون في روايتها إختلافاً كثيراً ولكنا نتخير من هذه الروايات أيسرها وأقربها إلى الإنسان : زعموا أن هذين الشاعرين هجوا عمرو بن هند حتى أحنقاه عليهما ، ثم وفدوا عليه فتلقاهما لقاء حسنا وكتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين وأوهمهما أنه كتب لهما بالجوائز والصِّلات ؛ فخرجا يقصدان إلى هذا العامل . ولكن المتلمِّس شك في كتابه فأقرأه غلاما من أهل الحِيرة فإذا فيه أمر بقتل المتلمِّس ، فألقى كتابه في النهر ، وألحّ على طرفة في أن يفعل فعله فأبى ؛ وأفترق الشاعران : مضى أحدهما إلى الشام فنجا ، ومضى الآخر إلى البحرين فلقى الموت . وكان طرفة حديث السنّ لم يتجاوز العشرين في رأي بعض الرواة ولم يتجاوز السادسة والعشرين في رأي بعضهم الآخر . وقد كثرت الأحاديث حول هذه القصة وأضيفت إليها أشياء أعرضنا عن ذكرها لظهور انتحال فيها وغضب عمرو بن هند على المتلمِّس حين هرب إلى الشام وأفلت من الموت فأقسم لا يطعم حَبَّ العراق . واتصل هجاء المتلمِّس له . والرواة المحققون يعدون هذين الشاعرين من المقلين . بل لم يرو ابن سلاّم للملتمس شيئاً ولم يسم له قصيدة . فأما طرفة فقد قال ابن سلاّم عنه في موضع إنه هو وعَبيد من أقدم الفحول ولم يبق لهما إلا قصائد بقدر عشر . وأستقلّ ابن سلاّم هذه القصائد على الشاعرين وقال إنه قد حمل عليهما حمل كثير . وقد رأيت أنه حين أراد أن يضع عبيدا في طبقته لم يعرف له إلا بيتا واحدا . فأما طرفة فقد عرف له المطولة وروى مطلعها هكذا : لَخوْلةَ أطلالُ ببرقة ثهمـــِد وقفتُ بها أبكي وأبكي إلى الغدِ وعرف له الرائية المشهورة : * أصحوت اليوم أم شاقتك هر * وعرف له قصائد لم يدل عليها . وقال إنه أشعر الناس بواحدة . يريد المعلقة . وبين يدينا ديوان لطرفة يشتمل هاتين القصيدتين وقصيدة أخرى مشهورة ، وهي : سائلوا عنا الذي يعرفنا بِخَزَازَى يوم تَحلاق اللمم ثم مقطوعات أخرى ليست بذات غَناء . وأنت إذا قرأت شعر طرفة رأيت فيه ما ترى في أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ولا سيما المضربين منهم من متانة اللفظ وغرابته أحيانا ، حتى لتقرأ الأبيات المتصلة فلا تفهم منها شيئاً دون أن تستعين بالمعاجم . ولكنك مضطر إلى أن تلاحظ أن هذا الشعر أشبه بشعر المضريين منه بشعر الرّبعيين ؛ فنحن لم نجمع شعراء ربيعة عفوا ، وإنما جمعناهم فيما تحدّثنا به إليك في هذا الكتاب إلى الآن لأن بينهم شيئاً يتفقون فيه جميعاً ، هو هذه السهولة التي تبلغ الإسفاف أحياناً ؛ لا نستثني منهم في ذلك إلا قصيدة الحارث حلّزة . فكيف شذ طرفة عن شعراء ربيعة جميعاً فقوى متنه واشتدّ أسره وآثر من الإغراب ما لم يؤثر أصحابه ودنا شعره من شعر المضريين ؟ وأنظر في هذه الأبيات التي يصف بها الناقة : وإنى لأُمضي الهمَّ عند إحتضاره بعوجاء مِرْقالٍ تـروح وتغتدي أمونٍ كألـــواح الأران نصْأتُهـا على لاحب كأنـه ظهر بُرْجُد جَمَاليةٍ وَجْنــاء ترِدي كــأنهـا سَفنّجــةُ تَبْرِي لأزعَر أربَد تُباري عِتاقــاً ناجيــاتٍ وأتبعت وظيفـاً وظيفا فوق مَوْرٍ معبَّد تربعت القُفَّين في الشّوْل ترتـعي حدائــــقَ مَوْليّ الأسِرة أغيد تَرِيع إلى صــوت المُهيب وتتقي بذي خُصَلٍ روعاتِ أكلفّ مُلْبِد كأنّ جناحَيّ مَضْرَحيّ تكنّـَفــا حفافيــه شكّا في العسيب بِسْرَد وهو يمضي على هذا النحو في وصف ناقته فيضطرنا إلى أن نفكر فيما قلناه من أن أكثر هذه الأوصاف أقرب إلى أن يكون من صنعة العلماء باللغة منه إلى أي شيء آخر . ولكن دع وصفه للناقة واقـــرأ : ولست بحــلاّل التَــــِلاع مخافــةً ولكن متى يسترفِــدِ القـــومُ أرفــد فإن تبغـــني في حَلْقــــة تلقــني وإن تلتمسني فــي الحوانيــت تصطـد متى تأتنـي أصبحك كأســـاً رويّــةً وإن كنت عنـها ذا غنى فـــاغن وازدد وإن يلتقِ الحـي الجميــــعُ تُلاقنــي إلى ذروة البيت الشريـــف المصمَّــد نداماي بيضُ كالنجـــــوم وقَينــةُ تروح إلينـــا بيــن بـــُرْدٍ ومجسَدِ رحيبُ قِطــابُ الجيب منــها رفيقــةُ بجَـــسّ النـدامى بضـّةُ المتجـــرّد إذا نحـن قلــنا أسمعينا أنبرت لنــــا على رِسْلهـــا مطروقـــة لم تشــدّد إذا رجّعتْ في صوتهــا خلـتَ صوتهــا تجــــاوُبَ أظــآرَ علــى رُبَع رَدِي فسترى في هذه الأبيات لينا ولكن في غير ضعف ، وشدّة ولكن في غير عنف . وسترى كلاماً لا هو بالغريب الذي لا يفهم ، ولا هو بالسُّوقي المبتذل ، ولا هو بالألفاظ قد رصفت رصفا دون أن تدل على شيء . وأمض في قراءة القصيدة قستظهر لك شخصية قوية ومذهب في الحياة واضح جلي : مذهب اللهو واللذة يعمِد إليهما من لا يؤمن بشيء بعد الموت ولا يطمع من الحياة إلا فيما تتيح له من نعيم بريء من الإثم والعار على ما كان يفهمها عليه هؤلاء الناس : وما زال تَشْرابي الخمورَ ولذّتي وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتْلَـدِي إلى أن تحامتني العشيـرةُ كلهـا وأُفـردت إفرادَ البعير المعَّبـد رأيت بني غَبراءَ لايُنكرونـني ولا أهـلُ هذاك الطِّرافِ الممـدّد ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلّدي فإن كنتَ لا تستطيع دفــع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي ولولا ثلاثٌ هن من عيشة الفتى وجدّك لم أحفــِلْ متى قام عُوّدي فمنهن سبقي العـاذلاتِ بشربـة كُمَيْتٍ متى ما تُعــْلَ بالماء تزبد وكَرِّى إذا نـادى المضافُ محنَّبـا كِسيِد الغضا نبّهتـه المتــورَّد وتقصير يــــوم الدَّجْن معجـِبُ ببهكَنةٍ تحت الخِبـاء المعمّــَد في هذا الشعر شخصية بارزة قوية لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة أو منتحلة أو مستعارة . وهذه الشخصية ظاهرة البداوة واضحة الإلحاد بنية الحزن واليأس والميل إلى الإباحة في قصد واعتدال . هذه الشخصية تمثل رجلاً فكر وألتمس الخير والهدى فلم يصل إلى شيء ، وهو صادق في يأسه ، صادق في حزنه ، صادق في ميله إلى هذه اللذات التي يؤثرها . ولست أدري أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل آخر ؟ وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذ الشعر . بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر ؛ وإنما الذي يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح لا تكلف فيه ولا إنتحال ، وأن هذا الشعر لا يشبه ما قدّمناه في وصف الناقة ولا يمكن أن يتصل به ، وأن هذا الشعر من الشعر النادر الذي نعثر به من حين إلى حين في تضاعيف هذا الكلام الكثير الذي يضاف إلى الجاهليين ، فنحس حين نقرؤه أنا نقرأ شعرا حقاً فيه قوة وحياة وروح . وإذاً فأنا أرجح أن في هذه القصيدة شعراً صنعه علماء اللغة هو هذا الوصف الذي قدّمنا بعضه ، وشعرا صدر عن شاعر حقا هو هذه الأبيات وما يشبهها . ولسنا نأمن أن يكون في هذه الأبيات نفسها ما دُسّ على الشاعر دسا وأنتحل عليه إنتحالاً . فأما صاحب القصيدة فيقول الرواة إنه طرفة . ولست أدري أهو طرفة أم غيره؟ بل لست أدري أجاهليّ هو أم إسلاميّ ؟ وكل ما أعرفه هو أنه شاعر بدوي ملحد شاكّ . ولست أحب أن أقف عند القصيدتين الأُخريين ؛ فإن شخصية الشاعر تستخفي فيهما إستخفاء وتعود معهما إلى هذا الشعر الذي وقفت عنده غير مرة والذي يمثل مجد القبيلة وفخرها القديم . وأكبر الظن أن هاتين القصيدتين كقصيدة الحارث بن حِلِّزة وضعتا في الإسلام تخليداً لمآثر بكر بن وائل . فلندع طرفة ولنصل إلى المتلمِّس . وأمر المتلمِّس أيسر من أمر طرفة . فشعره يعود بنا إلى شعر ربيعة الذي قدّمنا الإشارة إليه وإلى ما فيه من رقة وإسفاف وإبتذال . ومن غريب أمره أن التكلف فيه ظاهر ، ولاسيما في القافية ، فيكفى أن تقرأ سينيته التي أوّلها : يا آل بَكرٍ ألا لله أمّكُمُ طال الثَّواء وثوب العجزِ ملبوس لتحس تكلف القافية . على أن هذه القصيدة مضطربة الرواية فقد يوضع آخرها في أوّلها ، وقد يروى مطلعها : كم دونَ مَيّةَ من مستعمَلٍ قَذّفٍ ومن فلاة بها تستودع العِيُسُ وللمتلمِّس قصيدة أخرى ليست أجود ولا أمتن من هذه القصيدة ، ولعلها أدنى منها إلى الرداءة ، وهي التي مطلعها : ألم تر أن المرء رهن منيــة صريعٌ لعَافي الطيرِ أو سوف يُرْمَس فلا تقبلنْ ضمياً مخافةَ ميتـةٍ ومُوتَنْ بهـا حــراٍّ وجلُدك أملــس ويقول فيها : وما الناس إلا ما رأوا وتحدّثوا وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا وربما كانت ميمية المتلمس أجود ما يضاف إليه من الشعر ، وهي التي أوّلها : يعيِّرنى أمي رجال ولا أرى أخا كـرمٍ إلا بـــأن يتكّرمــا وأكبر الظن أن كل ما يضاف إلى المتلمِّس من شعر - أو أكثره على أقل تقدير - مصنوع ، الغرض من صنعته تفسير طائفة من الأمثال وطائفة من الأخبار حفظت في نفوس الشعب عن ملوك الحيرة وسيرتهم : في هؤلاء الأخلاط من العرب وغير العرب الذين كانوا يسكنون السواد . ولا أستبعد أن يكون شخص المتلمِّس نفسه قد إخترع إختراعاً تفسيراً لهذا المثل الذي كان يضرب بصحيفة المتلمِّس والذي لم يكن الناس يعرفون من أمره شيئاً ، ففسره القصاص وأستمدوا تفسيره من هذه الأساطير الشعبية التي أشرنا إليها غير مرة . وهناك شعراء آخرون من ربيعة كنا نستطيع أن نقف عندهم ونلم بشعرهم إلماماً وننتهي فيهم إلى مثل انتهينا إليه في أمر هؤلاء الشعراء الذين درسناهم في هذا البحث القصير . ولكنا نكتفي بما قدّمنا ؛ فقد ضربنا المثل . ويخيل إلينا أنا قد وضحنا وبينا وأزلنا الحجاب عن كل ما نريد أن نقوله في موقفنا بإزاء الشعر الجاهلي . ونحن لم نقصد في هذا الكتاب إلى أن ندرس الشعراء ولا إلى أن نحلل شعرهم وإنما قصدنا إلى أن نبسط رأينا في طريقة درس هذا الشعر الجاهلي وهؤلاء الشعراء الجاهليين . وقد بلغنا من ذلك ما كنا نريد . فأما تتبع الشعراء شاعرا شاعرا ودرس شعرهم قصيدة قصيدة ومقطوعة مقطوعة فقد نفرغ لبعضه في غير هذا الكتاب . ومهما نفعل فلن نستطيع أن ننهض به وحدنا في عام أو أعوام ، بل لابدّ من أن ينهض به معنا الذين يحبون الحق فيسعون إليه ويطلبونه . على أنا نريد أن نختم هذا السفر بملاحظتين : (الأولى) أن هذا الدرس الذي قدّمناه ينتهي بنا إلى نتيجة إلا تكن تاريخية صحيحة فهى فرض يحسن أن يقف عنده الباحثون ويجتهدوا في تحقيقة ، وهي أن أقدم الشعراء فيما كانت تزعم العرب وفيما كان يزعم الرواة إنما هو يمنيون أو ربعيون . وسواء أكانوا من أولئك أو من هؤلاء فما يروى من أخبارهم يدل على أن قبائلهم كانت تعيش في نجد والعراق والجزيرة أي في هذه البلاد التي تتصل بالفرس إتصالاً ظاهرا والتي كان يهاجر إليها العرب . من عدنان وقحطان على السواء . إذاً فنحن نرجح أن هذه الحركات التي دفعت أهل اليمن من ناحية وأهل الحجاز من ناحية أخرى إلى العراق والجزيرة ونجد ، في عصور مختلفة ولكنها لا تكاد تتجاوز القرن الرابع للمسيح ، قد أحدثت نهضة عقلية وأدبية ، لما كان من اختلاط هذين الجنسين العربيين فيما بينهما ومن اتصالهم بالفرس . ومن هذه النهضة نشأ الشعر أو قل إذا كنت تريد التحقيق ظهر الشعر وقوي وأصبح فناً أدبياً . وقد ذهب هذا الشعر ولم يبق لنا منه شيء إلا الذكرى ، ولكن لم يكد يأتي القرن السادس للمسيح حتى تجاوزت هذه النهضة أقطار العراق والجزيرة ونجد وتغلغلت في أعماق البلاد العربية نحو الحجاز فمست أهله . ومن هنا ظهر الشعر في مضر ومن إليهم من أهل البلاد العربية الشمالية . فالشعر كما ترى يمني قوي حين إتصلت القحطانية بربيعة. ولكنا لن نعرفه ولم نصل إليه إلا حين تغلغل في البلاد العربية وأخذته مضر عن ربيعة . ومن هنا نستطيع أن نقول إنا تعمدنا الوقوف ببحثنا عند هذا الحدّ الذي انتهينا إليه ؛ فلنا في شعر مضر رأى غير رأينا في شعر اليمن وربيعة ، لأننا نستطيع أن نؤرّخه ونحدّد أوليته تقريباً ، ولأننا نستطيع أن تقبل بعض قديمه دون أن تحول بيننا وبين ذلك عبقة لغوية عنيفة . وإذاً فنحن نستطيع أن نستأنف هذا البحث في سفر آخر . وسترى أن الشعراء الجاهليين من مضر أدركوا الإسلام كلهم أو أكثرهم فليس غريباً أن يصح من شعرهم شيء كثير . (الثانية) أن الذين يقرءون هذا الكتاب قد يفرغون من قراءته وفي نفوسهم شيء من الأثر المؤلم لهذا الشك الأدبي الذي نردّده في كل مكان من الكتاب . وقد يشعرون ، مخطئين أو مصيبين ، بأننا نتعمد الهدم تعمدا ونقصد إليه في غير رفق ولا لين . وقد يتخوفون عواقب هذا الهدم على الأدب العربي عامة وعلى القرآن الذي يتصل به هذا الأدب خاصة . فلهؤلاء نقول أن هذا الشك لا ضرر منه ولا بأس به ، لا لأن الشك مصدر اليقين ليس غير ، بل لأنه قد آن للأدب العربي وعلومه أن تقوم على أساس متين . وخير للأدب العربي أن يزال منه في غير رفق ولا لين ما لا يستطيع الحياة ولا يصلح لها من أن يبقى مثقلا ًبهذه الأثقال التي تضر أكثرها مما تنفع ، وتعوق عن الحركة أكثر مما يمكن منها . ولسنا نخشى على القرآن من هذا النوع من الشك والهدم بأسا ؛ فنحن نخالف أشدّ الخلاف أولئك الذين يعتقدون أن القرآن في حاجة إلى الشعر الجاهلي لتصح عربيته وتثبت ألفاظه . نخالفهم في ذلك أشدّ الخلاف لأن أحدا لم ينكر عربية النبي فيما نعرف ، ولأن أحدا لم ينكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته . وإذا لم ينكر أحد أن النبي عربىّ وإذا لم ينكر أحد أن العرب فهموا القرآن حين سمعوه ، فأي خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الجاهلي أو هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟ وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع في أن المسلمين قد احتاطوا أشدّ الإحتياط في رواية القرآن وكتابته ودرسه وتفسيره حتى أصبح أصدق نص عربي قديم يمكن الإعتماد عليه في تدوين اللغة العربية وفهمها . وهم لم يحفلوا برواية الشعر ولم يحتاطوا فيها ، بل انصرفوا عنها في بعض الأوقات طائعين أو كارهين ، ولم يراجعوها إلا بعد فترة من الدهر وبعد أن عبث النسيان والزمان بما كان قد حفظ من شعر العرب في غير كتابة ولا تدوين . فأيهما أشد إكبار للقرآن وإجلالاً له وتقديساً لنصوصه وإيماناً بعربيته القاطعة على تلك العربية المشكوك فيها ، أم ذلك الذي يستدل على عربية القرآن بشعر كان يرويه وينتحله في غير احتياط ولا تحفظ قوم منهم الكذاب ومنهم الفاسق ومنهم المأجور ومنهم صاحب اللهو والعبث ؟ أما نحن فمطمئنون إلى مذهبنا مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو كثرة هذا الشعر الجاهلي لا تمثل شيئاً ولا تدل على شيء إلا ما قدّمنا من العبث والكذب والانتحال ، وأن الوجه - إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص - إنما هو الاستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القرآن . تم بحمد الله
NASSER2.XTGEM.COM